وما ذكرنا من معنى حكومة العقل أمر جلي لا يلتبس على أحد، الا من اختلت مشاعره أو خلق من أول الأمر مسلوب الشعور، أو كان ممن في قلبه مرض فينكر هذا الامر البديهي ليتوصل إلى غرضه، ويزداد في مرضه.
ولا يخفى ان مقدمات حكم العقل قد تكون عقلية محضة على اختلاف انحائها من البديهية والنظرية، وقد يكون بعضها عقليا محضا، وبعضها مأخوذا ممن ثبت عند العقل صدقه وكون نظره صوابا ومطابقا للواقع.
وأيضا العقل قد يخطأ في حكمه - وإن كان هو حين الحكم لا يحتمل الخطأ بل قاطع بالصواب - كما قد يخطئ اللسان فيجري بقول: (لا) في مقام (نعم) وكذا العكس، وكما قد تخطئ اليد، فترمي ما يراد امساكه وتمسك ما يراد ارساله، إلى غير ذلك.
وبالجملة قلة موارد حكم العقل أو خطأه أحيانا غير موجب لانكار حكمه فضلا عن انكار أصل العقل.
وكيف يسوغ لعاقل متشرع ان ينكر العقل وحكمه، واني يمكن لمتدبر ان يجحد هذين الأساسين القويمين، والأصلين الوثيقين؟! وليت يشعر الجاحد للعقل وحكمه ان انكاره هذا مرجعه إلى انكار الضروريات، والاعتقاد بالسفسطيات، والسلام على الشرعيات، والختام على العقائد والديانات، مع وضوح كون العقل هو الاس، والشرع مبني عليه، ولم يثبت بناء ما لم يكن أس، كما أنه لن يغني أس - غناء معتدا به - ما لم يكن بناء، ولنعم ما قال بعضهم: العقل كالبصر، والشرع كالشعاع، ولن ينفع البصر ما لم يكن شعاع من خارج، ولم يغن شعاع ما لم يكن بصر، ولذا قال تعالى:
(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور باذنه) (8).