إلى الشمال وبالعكس للسائرين إلى الجنوب بحسب سيرهما دليل على استدارتها بين الجنوب والشمال، وتركب الاختلافين يعطي الاستدارة في جميع الامتدادات. ويؤيده مشاهدة استدارة أطراف المنكسف من القمر الدالة على أن الفصل المشترك بين المستضئ من الأرض وما ينبعث منه الظل دائرة، وكذلك اختلاف ساعات النهر (1) الطوال والقصار في مساكن متفقة الطول إلى غير ذلك. ولو كانت أسطوانية قاعدتاها نحو القطبين لم يكن لساكني الاستدارة كوكب أبدي الظهور، بل إما الجميع طالعة غاربة أو كانت كواكب يكون من كل واحد من القطبين على بعد تستره القاعدتان أبدية الخفاء والباقية طالعة غاربة وليس كذلك، وأيضا فالسائر إلى الشمال قد يغيب عنه دائما كواكب كانت تظهر له، وتظهر له كواكب كانت تغيب عنه بقدر إمعانه في السير، وذلك يدل على استدارتها في هاتين الجهتين أيضا. ومما يدل على استدارة سطح الماء الواقف طلوع رؤوس الجبال الشامخة على السائرين في البحر أولا ثم ما يلي رؤوسها شيئا بعد شئ في جميع الجهات. وقالوا: التضاريس التي على وجه الأرض من جهة الجبال و الأغوار لا تقدح في كرويتها الحسية، إذ ارتفاع أعظم الجبال وأرفعها على ما وجدوه فرسخان وثلث فرسخ، ونسبتها إلى جرم الأرض كنسبة جرم سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع بل أقل من ذلك. ويظهر من كلام أكثر المتأخرين: أن عدم قدح تلك الأمور في كرويتها الحسية معناه أنها لا تخل بشكل جملتها كالبيضة ألزقت بها حبات شعير لم يقدح ذلك في شكل جملتها، واعترض عليه: بأن كون الأرض أو البيضة حينئذ على الشكل الكروي أو البيضي عند الحس ممنوع، وكيف يمكن دعوى ذلك مع ما يرى على كل منهما ما يخرج به الشكل مما اعتبروا فيه وعرفوه به؟ و ربما يوجه بوجه آخر وهو أن الجبال والوهاد الواقعة على سطح الأرض غير محسوسة عادة عند الإحساس بجملة كرة الأرض على ما هي عليه في الواقع. بيانه: أن رؤية الأشياء تختلف بالقرب والبعد، فيرى القريب أعظم مما هو الواقع والبعيد أصغر منه وهو ظاهر، وقد أطبق القائلون بالانطباع وبخروج الشعاع كلهم على أن هذا الاختلاف
(٩٦)