فقال المفضل: فقلت: يا مولاي! فقد رأيت من يبقى على حالته ولا ينبت الشعر في وجهه وإن بلغ حال الكبر. فقال: ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد، فمن هذا الذي يرصده حتى يوافيه بكل شئ من هذه المآرب إلا الذي أنشأه خلقا بعد أن لم يكن، ثم توكل له بمصلحته بعد أن كان؟ فإن كان الاهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد والتقدير يأتيان بالخطأ والمحال، لأنهما ضد (1) الاهمال. وهذا فظيع من القول وجهل من قائلة، لان الاهمال لا يأتي بالصواب، والتضاد لا يأتي بالنظام، تعالى الله عما يقول الملحدون علوا كبيرا.
ولو كان المولود يولد فهما عاقلا لأنكر العالم عند ولادته، ولبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف وورد عليه ما لم ير مثله من اختلاف صور العالم من البهائم والطير إلى غير ذلك مما يشاهده ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم: واعتبر ذلك بأن من سبي من ولد إلى بلد وهو عاقل يكون كالواله الحيران، فلا يسرع في تعلم الكلام وقبول الأدب كما يسرع الذي يسبى صغيرا غير عاقل. ثم لو ولد عاقلا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولا مرضعا معصبا بالخرق مسجى في المهد، لأنه لا يستغني عن هذا كله لرقة بدنه ورطوبته حتى يولد، ثم كان لا يوجد له من الحلاوة والوقع من القلوب ما يوجد للطفل، فصار يخرج إلى الدنيا غبيا غافلا عما فيه أهله، فيلقى الأشياء بذهن ضعيف ومعرفة ناقصة. ثم لا يزال يتزيد (2) في المعرفة قليلا قليلا و شيئا بعد شئ وحالا بعد حال حتى يألف الأشياء ويتمرن ويستمر عليها، فيخرج من حد التأمل بها والحيرة فيها إلى التصرف والاضطراب إلى المعاش بعقله وحيلته وإلى الاعتبار والطاعة والسهو والغفلة [والمعصية].
وفي هذا أيضا وجوه أخر، فإنه لو كان يولد تام العقل مستقلا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، وما قدر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة وما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافأة بالبر والعطف عليهم عند حاجتهم