ذلك ما يدبر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء، ولا دفع أذى، ولا استجلاب منفعة، ولا دفع مضرة، فإنه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات فلا يزال ذلك غذاءه حتى إذا كمل خلقه، واستحكم بدنه، وقوي أديمه على مباشرة الهواء، وبصره على ملاقاة الضياء، هاج الطلق بأمه فأزعجه أشد إزعاج وأعنفه حتى يولد، وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمه إلى ثدييها، فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء، وهو أشد موافقة للمولود من الدم، فيوافيه في وقت حاجته إليه، فحين يولد قد تلمظ وحرك شفتيه طلبا للرضاع، فهو يجد ثديي أمه كالأداوتين المعلقتين لحاجته، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء لين الأعضاء، حتى إذا تحرك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتد ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ به الطعام، فيلين عليه وسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتى يدرك، فإذا أدرك وكان ذكرا طلع الشعر في وجهه، فكان ذلك علامة الذكر وعز الرجل الذي يخرج به عن حد الصبا وشبه النساء، إن كانت أنثى يبقى وجهها نقيا من الشعر لتبقى لها البهجة والنضارة التي تحرك الرجال لما فيه دوام النسل وبقاؤه.
اعتبر يا مفضل في ما يدبر به الانسان في هذه الأحوال المختلفة، هل ترى يمكن أن يكون بالاهمال؟ أفرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم وهو في الرحم ألم يكن سيذوى ويجف كما يجف النبات إذا فقد الماء؟ ولو لم يزعجه المخاض عند استحكامه ألم يكن سيبقى في الرحم كالموؤود في الأرض؟ ولو لم يوافقه اللبن مع ولادته ألم يكن سيموت جوعا أو يغتذي بغذاء لا يلائمه ولا يصلح عليه بدنه؟ ولو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها ألم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام وإساغته، أو يقيمه على الرضاع فلا يشتد بدنه ولا يصلح لعلم، ثم كان تشتغل أمه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد؟ ولو لم يخرج الشعر في وجهه [في وقته] ألم يكن سيبقى في هيئة الصبيان والنساء، فلا ترى له جلالة ولا وقارا؟