وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر (1) ومنها ما روى الصادق عليه السلام: حتى متى تعدني الدنيا وتخلف، وأأتمنها فتخون
(١) قال ابن كثير الشامي في تاريخه البداية والنهاية ج ٩ ص ١٠٩:
وروى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عبد الله المقرى، حدثني سفيان بن عيينة عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه ويناجى ربه:
يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك، والى عمارتها ركونك، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، ومن وارته الأرض من آلافك؟ ومن فجعت به من إخوانك، ونقل إلى الثرى من أقرانك؟
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها محاسنهم فيها بوال دواثر خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نحو المنايا المقادر وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر كم خرمت أيدي المنون، من قرون بعد قرون؟ وكم غيرت الأرض ببلائها، وغيبت في ثرائها ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الأرماس، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الافلاس:
وأنت على الدنيا مكب منافس لخطابها فيها حريص مكاثر على خطر تمسى وتصبح لاهيا أتدري بماذا لو عقلت تخاطر وان امرءا يسعى لدنياه دائبا ويذهل عن أخراه لا شك خاسر فحتام على الدنيا اقبالك؟ وبشهواتها اشتغالك؟ وقد وخطك القتير، وأتاك النذير وأنت عما يراد بك ساه، وبلذة يومك وغدك لاه، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات، وعاينت ما حل بهم من المصيبات:
وفى ذكر هول الموت والقبر والبلى عن اللهو واللذات للمرء زاجر أبعد اقتراب الأربعين تربص وشيب قذال منذر للكابر [للأكابر] ظ كأنك معنى بما هو ضائر لنفسك عمدا عن الرشد حائر انظر إلى الأمم الماضية، والملوك الفانية، كيف اختطفتهم عقبان الأيام، ووافاهم الحمام، فانمحت من الدنيا آثارهم، وبقيت فيها أخبارهم، وأضحوا رمما في التراب إلى يوم الحشر والمآب:
أمسوا رميما في التراب وعطلت * مجالسهم منهم وأخلت مقاصر وحلوا بدار لا تزاور بينهم * وأنى لسكان القبور التزاور فما أن ترى الا قبورا ثووا بها * مسطحة تسفى عليها الأعاصر كم من ذي منعة وسلطان، وجنود وأعوان، تمكن من دنياه، ونال ما تمناه، وبنى فيها القصور والدساكر، وجمع فيها الأموال والذخائر، وملح السراري والحرائر:
فما صرفت كف المنية إذ أتت * مبادرة تهوى إليه الذخائر ولا دفعت عنه الحصون التي بنى * وحف بها أنهاره والدساكر ولا قارعت عنه المنية حيلة * ولا طمعت في الذب عنه العساكر أتاه من الله ما لا يرد، ونزل به من قضائه ما لا يصد، فتعالى الله الملك الجبار المتكبر العزيز القهار، قاصم الجبارين، ومبيد المتكبرين، الذي ذل لعزه كل سلطان وأباد بقوته كل ديان:
مليك عزيز لا يرد قضاؤه * حكيم عليم نافذ الامر قاهر عنى كل ذي عز لعزة وجهه * فكم من عزيز للمهيمن صاغر لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت * لعزة ذي العرش الملوك الجبابر فالبدار البدار، والحذار الحذار، من الدنيا ومكائدها، وما نصبت لك من مصائدها وتحلت لك من زينتها، وأظهرت لك من بهجتها، وأبرزت لك من شهواتها، وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها:
وفى دون ما عاينت من فجعاتها * إلى دفعها داع وبالزهد آمر فجد ولا تغفل وكن متيقظا * فعما قليل يترك الدار عامر فشمر ولا تفتر فعمرك زائل * وأنت إلى دار الإقامة صائر ولا تطلب الدنيا فان نعيمها * وان نلت منها غبه لك ضائر فهل يحرص عليها لبيب؟ أو يسر بها أريب؟ وهو على ثقة من فنائها، وغير طامع في بقائها أم كيف تنام عينا من يخشى البيات؟ وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات:
ألا لا ولكنا نغر نفوسنا * وتشغلنا اللذات عما نحاذر وكيف يلذ العيش من هو موقف * بموقف عدل يوم تبلى السرائر كأنا نرى أن لا نشور وأننا * سدى مالنا بعد الممات مصادر وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها؟ ويتمتع به من بهجتها، مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها، وكثرة عذابه في مصابها وطلبها، وما يكابد من أسقامها وأوصابها وآلامها:
أما قد نرى في كل يوم وليلة * يروح علينا صرفها ويباكر تعاورنا آفاتها وهمومها وكم * قد نرى يبقى لها المتعاور فلا هو مغبوط بدنياه آمن ولا * هو عن تطلابها النفس قاصر كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها؟ وصرعت من مكب عليها، فلم تنعشه من عثرته ولم تنقذه من صرعته، ولم تشفه من ألمه، ولم تبره من سقمه، ولم تخلصه من وصمه.
بل أوردته بعد عز ومنعة * موارد سوء ما لهن مصادر فلما رأى أن لا نجاة وأنه * هو الموت لا ينجيه منه التحاذر تندم إذ لم تغن عنه ندامة * عليه وأبكته الذنوب الكبائر إذ بكى على ما سلف من خطاياه، وتحسر على ما خلف من دنياه، واستغفر حين لا ينفعه الاستغفار ولا ينجيه الاعتذار، عند هول المنية، ونزول البلية:
أحاطت به أحزانه وهمومه * وأبلس لما أعجزته المقادر فليس له من كربة الموت فارج * وليس له مما يحاذر ناصر وقد جشأت خوف المنية نفسه * ترددها منه اللها والحناجر هنالك خف عواده، وأسلمه أهله وأولاده، وارتفعت البرية بالعويل، وقد أيسوا من العليل فغمضوا بأيديهم عينيه، ومد عند خروج روحه رجليه، وتخلى عنه الصديق، والصاحب الشفيق:
فكم موجع يبكى عليه مفجع ومستنجد صبرا وما هو صابر ومسترجع داع له الله مخلصا * يعدد منه كل ما هو ذاكر وكم شامت مستبشر بوفاته * وعما قليل للذي صار صائر فشقت جيوبها نساؤه، ولطمت خدودها إماؤه، وأعول لفقده جيرانه، وتوجع لرزيته إخوانه، ثم أقبلوا على جهازه، وشمروا لا برازه، كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى ولا الحبيب المبدى:
وحل أحب القوم كان بقربه * يحث على تجهيزه ويبادر وشمر من قد أحضروه لغسله * ووجه لما فاض للقبر حافر وكفن في ثوبين واجتمعت * له مشيعة إخوانه والعشائر فلو رأيت الأصغر من أولاده، وقد غلبالحزن على فؤاده، ويخشى من الجزع عليه، وخضبت الدموع عينيه، وهو يندب أباه، ويقول: يا ويلاه وا حرباه:
لعاينت من قبح المنية منظرا * يهال لمرآة ويرتاع ناظر أكابر أولاد يهيج اكتئابهم إذا * ما تناساه البنون الأصاغر وربة نسوان عليه جوازع * مدامعهن فوق الخدود غوازر ثم اخرج من سعة قصره، إلى ضيق قبره، فلما استقر في اللحد وهيئ عليه اللبن، احتوشته أعماله، وأحاطت به خطاياه، وضاق ذرعا بما رآه، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب وأكثروا البكاء عليه والانتحاب، ثم وقفوا ساعة عليه، وآيسوا من النظر إليه، وتركوه رهنا بما كسب وطلب:
فولوا عليه معولين وكلهم * لمثل الذي لاقى أخوه محاذر كشاء رتاع آمنين بدا لها * بمديته بادي الذراعين حاسر فريعت ولم ترتع قليلا وأجفلت * فلما نأى عنها الذي هو جاذر عادت إلى مرعاها. ونسيت ما في أختها دهاها، أفبأفعال الانعام اقتدينا؟ أم على عادتها جرينا؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى، واعتبر بموضعه تحت الثرى، المدفوع إلى هول ما ترى:
ثوى مفردا في لحده وتوزعت مواريثه والأصاهر وأحنوا على أمواله يقسمونها * فلا حامد منهم عليها وشاكر فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها * ويا آمنا من أن تدور الدوائر كيف أمنت هذه الحالة، وأنت صائر إليها لا محالة، أم كيف ضيعت حياتك؟ وهي مطيتك إلى مماتك، أم كيف تشبع من طعامك؟ وأنت منتظر حمامك، أم كيف تهنأ بالشهوات؟
وهي مطية الآفات:
ولم تتزود للرحيل وقد دنا * وأنت على حال وشيك مسافر فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي * وعمري فان والردى لي ناظر وكل الذي أسلفت في الصحف * مثبت يجازى عليه عادل الحكم قاهر فكم ترقع آخرتك بدنياك؟ وتركب غيك وهواك؟ أراك ضعيف اليقين، يا مؤثر الدنيا على الدين، أبهذا أمرك الرحمن؟ أم على هذا نزل القرآن؟ أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب، وشر المآب؟ أما تذكر حال من جمع وثمر، ورفع البناء وزخرف وعمر؟
أما صار جمعهم بورا، ومساكنهم قبورا؟
تخرب ما يبقى وتعمر فانيا * فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر وهل لك ان وافاك حتفك بغتة * ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي * ودينك منقوص ومالك وافر