كان الحسين يذكر ويقيم الحجة على امتداد الطريق، وكان الذين من حوله تلمع في عقولهم دنانير عبيد الله بن زياد. كما لمع العجل في قلوب بني إسرائيل، كان يلقي عليهم كلمات فيها حياتهم، وبها بعيشوا أحرارا. وكانوا يبحثون عن حجارة ليرجموه بها. هو يريد حياتهم، وهم يريدون قتله. وصاح الحسين: ما لك يا ابن سعد قطع الله رحمك، ولا بارك الله لك في أمرك، وسلط عليك بعدي من يذبحك على فراشك، كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم رفع صوته وتلي قوله تعالى (1):
(إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " (2).
كان يذكرهم بما يعرفون وبما يخفون. وتعالت الأصوات: الحق مع آل معاوية، وقطع ضجيجهم صوت الحسين: نعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم....
يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في عترته. ثم قال: أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبدا من عباد الله فتهابوا قتله. بل يهون عليكم ذلك، عند قتلكم إياي، وأيم الله، إني لأرجو أن يكرمني الله بالشهادة، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون. فناداه الحصين بن مالك: وبماذا ينتقم لك منا يا ابن فاطمة فقال:
يلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم، ثم يصب عليكم العذاب الأليم (3).
وبعد أن حذرهم الحسين التحذير الأخير، عطش الحسين حتى اشتد عطشه فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهم فوقع في فمه، فجعل يتلقى الدم من فمه، ويرمي به إلى السماء، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يديه فقال: اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر على الأرض منهم أحدا (4).