شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٢٩٠
أخبرنا إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليا رضي الله عنه قال في ابن ملجم بعد ما ضربه به: أطعموه واسقوه وأحسنوا إسارة فإن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت وإن مت فقتلتموه فلا تمثلوا.
ومنهم الفاضلان المعاصران الشريف عباس أحمد صقر وأحمد عبد الجواد المدنيان في " جامع الأحاديث " (القسم الثاني ج 4 ص 449 ط دمشق) قالا:
عن ابن الحنفية قال: دخل علينا ابن ملجم الحمام، وأنا وحسن وحسين رضي الله عنهم جلوس في الحمام، فلما دخل كأنهما اشمأزا منهم، وقالا: ما أجرأك تدخل علينا. قال: فقلت لهما: دعاه عنكما، فلعمري ما يريد بكما أجسم من هذا، فلما كان يوم أتي به أسيرا، قال ابن الحنفية: ما أنا اليوم بأعرف مني يوم دخل علينا الحمام، فقال علي رضي الله عنه: إنه أسير فأحسنوا نزله، وأكرموا مثواه، فإن بقيت قتلت أو عفوت، وإن مت فاقتلوه قتلتي ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن عليا رضي الله عنه كان يخرج إلى الصبح ومعه درة يوقظ بها الناس، فضربه ابن ملجم، فقال علي: أطعموه واسقوه وأحسنوا إساره، فإن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استقدت، وإن مت فقتلتموه فلا تمثلوا به. (الشافعي)، (ق) (1).

(1) قال الفاضل المعاصر خالد محمد خالد في " أبناء الرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كربلا " (ص 41 ط 5 دار ثابت - القاهرة):
وأي صورة للعدالة وللرحمة يمكن أن يرقى إليها حكم كهذه الصورة التي يتجلى فيها ابن أبي طالب ودماؤه تنزف وأجله يسرع، وقد جئ إليه بقاتله، فلا يشتغل باله ولا يؤرق حياته في لحظات وداعها سوى مصير قاتله، وحين يقدر على الكلام تنفرج شفتاه عن هذه الكلمات:
يا بني عبد المطلب، لا ألفينكم تخوضون في دماء المسلمين خوضا، تقولون: قتل أمير المؤمنين. أحسنوا نزله يعني قاتله فإن أعش، فأنا أولى بدمه قصاصا أو عفوا وإن أمت، فاضربوه بضربة. ولا تمثلوا بالرجل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور.
ورجل نسك من أرفع طراز، غزير الدمعة من خشية الله، دائم الإخبات لله يلبس أخشن الثياب، ويأكل أجشب الطعام ويحيا بين الناس كواحد منهم.
وكان نسكه كخليفة يتمم نسكه كعابد، فكان يأبى إلا مشاركة الناس في كل ما ينزل بهم من ضر وشظف ويخص نفسه من ذلك بالنصيب الأوفى.
ولقد لخص لنا نسك خلافته وإمارته في هذه الكلمات:
أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين، ثم لا أشارك المؤمنين في مكاره الزمان.
والله، لو شئت لكان لي من صفو هذا العسل، ولباب هذا البئر، ومناعم هذه الثياب.
ولكن، هيهات إن يغلبني الهوى، فأبيت مبطانا وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى.
هذه الومضة من حياته ومن عظمة منهجه وسلوكه، تصور على نحو متواضع، القضية التي نهض يقاتل من أجلها قضية استمرار عصر النبوة بكل فضائله ومزاياه، وإنها لقضية جديرة بولاء لا ينتهي، وتضحيات لا تفنى وهي لم تكن بالنسبة للإمام علي قضية خاصة، ولا قضية شخصية، بل هي قضية الإسلام كله، وقضية كل مؤمن أواب.
وإذا كانت الأقدار ستؤثره وأبناءه من بعده، بأن يكونوا أعظم شهدائها وأشرف قرابينها، فلتكن مشيئة الله. إن هناك من يموتون من أجل الباطل، ومن يموتون في سبيل الحق، فما مزية الحق على الباطل في مجال التضحية والفداء؟ مزيته أن ضحاياه شريفة ورفيعة وغالية بينما ضحايا الباطل صغيرة دنيئة محقرة.
فليكن هو وأبناؤه شرفا للحق في مماتهم واستشهادهم، كما كانوا شرفا له في محياهم، وهكذا كان من الصعب عليه، بل من المستحيل أن يترك قضية الإسلام للأهواء التي هبت عليه جائحة، جامحة.
كانت المهادنة مستحيلة وكانت المسايرة أكثر استحالة. ولم يكن أمامه سوى أن يحمل سيفه وكفنه، ثم يمضي.. فللمسئوليات العظام خلق وللتضحيات يعيش. وإنه لسليل بيت، كانت العظمة دثاره، حتى في الجاهلية وقبل الإسلام، وإنه لتلميذ دين نشأ ونما، بين أروع التضحيات وأشرفها وأسماها.
(٢٩٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 285 286 287 288 289 290 292 293 294 295 296 ... » »»
الفهرست