شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٢٦٧
الرخاء والثراء، والسلطة المطلقة، وتوفير الناس وإجلالهم الذي يمنع من النقد والحسبة والمؤاخذة، وقد روى يحيى بن معين عن علي بن جعد عن الحسن بن صالح، قال: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال: أزهد الناس في الدنيا علي ابن أبي طالب.
وهنالك أمثلة من زهده، وهي قليل من كثير:
أخرج أبو عبيد عن عنترة قال: دخلت على علي بن أبي طالب بالخورنق، وعليه قطيفة وهو يرعد فيها من البرد، فقالت: يا أمير المؤمنين، إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك نصيبا في هذا المال، وأنت ترعد من البرد؟ فقال: إني والله لا أرزأ من مالكم شيئا، وهذه القطيفة هي التي خرجت بها من بيتي، أو قال من المدينة.
وأخرج أبو نعيم في " الحلية " عن رجل من ثقيف أن عليا رضي الله عنه استعمله على عكبرا، قال: ولم يكن السواد يسكنه المصلون، وقال لي: إذا كان عند الظهر فرح إلي، فرحت إليه، فلم أجد عنده حاجبا يحجبني عنه دونه، فوجدته جالسا وعنده قدح وكوز من ماء، فدعا بطينة فقلت في نفسي: لقد أمنني حتى يخرج إلي جوهرا، ولا أدري ما فيها، فإذا عليها خاتم، فكسر الخاتم فإذا فيها سويق، فأخرج منها، فصب في القدح، فصب عليه ماءا فشرب وسقاني، فلم أصبر فقلت: يا أمير المؤمنين، أتصنع هذا بالعراق وطعام العراق أكثر من ذلك، قال: أما والله ما أختم عليه بخلا عليه، ولكني أبتاع قدر ما يكفيني، فأخاف أن يفنى فيصنع من غيره، وإنما حفظي لذلك، وأكره أن أدخل بطني إلا طيبا.
وأوتي بالفالوذج ووضع قدامه بين يديه، فقال: إنك طيب الريح، وحسن اللون، طيب الطعم، ولكن أكره أن أعود نفسي ما لم تعتده.
وعن زيد بن وهب قال: خرج علينا علي رضي الله عنه وعليه رداء وإزار قد وثقه بخرقة، فقيل له، فقال: إنما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعد لي من الزهو، وخيرا لي في صلاتي، وسنة للمؤمن.
وعن مجمع بن سمعان التيمي قال: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسيفه إلى السوق، فقال: من يشتري مني سيفي هذا؟ فلو كان عندي أربعة دراهم أشتري بها إزار ما بعته.
وأخرج أحمد عن عبد الله بن رزين قال: دخلت على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقرب إلينا خزيرة، فقلنا: أصلحك الله، لو أطعمتنا هذا البط يعني الأوز فإن الله أكثر الخير، قال: يا ابن رزين، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان: قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدي الناس.
وأخرج أبو عبيد في " الأموال " عن علي رضي الله عنه أنه أعطى العطاء في سنة ثلاث مرات، ثم أتاه مال من أصبهان، فقال: اغدوا إلى عطاء رابع، إني لست بخازنكم، فأخذها قوم وردها قوم.
خطب علي الناس فقال: أيها الناس والله الذي لا إله إلا هو، ما رزأت من مالكم قليلا ولا كثيرا إلا هذه، وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب، فقال: أهدى إلي دهقان، وقال ثم أتى بيت المال وقال: خذوا، أنشأ يقول:
أفلح من كانت له قوصرة * يأكل منها كل يوم تمرة ويقول هبيرة بن يريم: قال سمعت الحسن بن علي خطيبا، فخطب الناس فقال: يا أيها الناس لقد فارقكم أمس رجل ما ترك بيضاء ولا صفراء إلا سبع مائة درهم فضلت من عطائه، أراد أن يشتري بها خادما.
وقال الفاضل المعاصر الدكتور حسن الشرقاوي في " أصول التصوف الإسلامي " (ص ٥٣ ط دار المعرفة الجامعية - الإسكندرية):
زاد زهدعلي رضي الله عنه عن زهد أكابر الزهاد، ولم يدخل إلى أهله وهو أمير المؤمنين شيئا من أموال المسلمين، ولم يلبس وهو أمير المؤمنين إزارا يزيد على ثلاثة دراهم، يغسل بيت المال بيده عسى أن يكون ذلك شفيعا له يوم القيامة، يبيع سيفه الذي قاتل به المشركين ويقول: لو كان عندي ثمن إزار قميص ما بعته، يرى وهو يلبس المرقع من الثياب فيعاتبه أحد الخوارج فيقول له: ما لك وثوبي، إنه أبعد عن الكبر وأجدر أن يقتدي به المؤمن.
بمن يقتدي المسلم إن لم يقتد بعلي، باب العلم، ومنارة الحكمة، وشقيق الرسول وعلى سريره في الجنة.
الباكي الحزين، المؤمن الصابر، الصادقاليقين، العادل الأمين، أول المجاهدين، الناصر للدين، العالم الحكيم... العارف بعلوم الظاهر والباطن والحق والباطل.