عليه نبأه معهم. فاستقبل الرسول القوم وقال: أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله، إنه لأخشن في سبيل الله من أن يشكى.
وهو بإسلامه وفي إسلامه لا يتغير طفلا وشابا وشيخا جنديا وقائدا وخليفة للمسلمين.. إن تقوى الله تأخذ عليه لبة وهو لا يعامل الناس بذكائه، ولا بحسبه ونسبه.
بل بإخلاصه وتقواه.. ثم هو لا يريد منهم، بل ولا يقبل منهم أن يعاملوه بغير الصدق والتقوى. من أجل هذا سنراه حين يقع الصدام بينه وبين معاوية يؤثر الهزيمة مع الإخلاص والتقوى. على انتصار يتحقق بالمكر والمراوغة. ويقول له ابن عمه عبد الله بن عباس وهو الصالح الورع: خادعهم، فإن الحرب خدعة، فيجيبه الإمام الطاهر: لا والله لا أبيع ديني بدنياهم أبدا. مسلم عظيم يفجر الدنيا من حواليه ذمة، واستقامة، وطهرا.
وكذلك نراه وهو يخطب أصحابه في أول جمعة، بالكوفة، وهو أمير المؤمنين، لا يخطب خطبة خليفة ولا أمير ولا حاكم.. لا يصدر قرارات، ولا يرسم سياسة على كثرة ما كانت الظروف تتطلب من قرارات، وسياسة بل لا يجعل خطابه الأول هذا استجابة لحماس أصحابه وشد زناد الحمية في أنفسهم استعدادا للمعركة التي سيخوضونها مع جيش الشام المقاتل، المدرب، الصعب المراس، لا شئ من ذلك كله يضمنه الخليفة والإمام خطابه. إنما هي الدعوة الخالصة لتقوى الله وحسن عبادته وطاعته اسمعوا: أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن تقوى الله خير تواصى به عباده، وأقرب الأعمال لرضوانه، وأفضلها في عواقب الأمور عنده. وبتقوى الله أمرتم، وللإحسان خلقتم.. فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فإنه حذر بأسا شديدا.
واخشوا الله ليست بتعذير واعملوا من غير رياء ولا سمعة، فإن من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ومن عمل مخلصا له تولاه الله وأعطاه فضل نيته، وأشفقوا من عذاب الله فإنه لم يخلقكم عبثا ولم يترك شيئا من أمركم سدى قد سمى آثاركم، وعلم أسراركم وأحصى أعمالكم، وكتب آجالكم فلا تغرنكم الدنيا، فإنها غرارة لأهلها، والمغرور من اغتر بها وإن الآخرة لهي دار القرار.
أهذا خطاب رئيس دولة؟ كلا إنما هو خطاب ناسك. خطاب مسلم ومؤمن وجه وجهه وقلبه وحياته للذي فطر السماوات والأرض، لا يعنيه إلا أن يحيا في مرضاته تقيا، وأن يحيا الذين من حوله أتقياء، أنقياء.
كذلك نراه ونرى إسلامه الوثيق حين لم يعد، بد من لقاء معاوية في معركة صفين يستقبل جيشه ليلة المعركة خطيبا، فلا يعدهم ولا يمنيهم. ولا يرفع أمامهم مباهج الدنيا ونعيمها، ثمنا للنصر إذا هم ظفروا به.. إنما يحدثهم حديثا آخر يختلف عن كل الأحاديث التي تتطلبها أمثال هذه المناسبة. أنظروا.. ألا إنكم ملاقوا القوم غدا فأطيلوا الليلة قيامكم وصلاتكم وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والعفو والعافية.
في أوقات السلم، وفي أوقات الحرب فوق ثبج النصر، وتحت وقع الهزيمة في سرائه، وفي ضرائه لا يستولي عن تفكيره، وعلى ضميره، وعلى شعوره سوى تقوى الله سبحانه. وحتى وهو يكتب إلى عمرو بن العاص الذي انحاز إلى صف معاوية، وبات يشكل خطرا حقيقيا على جبهة الإمام، لا نلتقي بالإمام يمني عمرا بدنيا، ولا يستميله إلى هوى نفس السلاح الذي كان معاوية يكسب به الأنصار بل نبصره يصدع عمرا بالحق في غير مساومة، ولا مجامل. إنه يناشده تقوى الله لا غير، هذه التقوى التي تجري من بن أبي طالب مجرى الدم، فيقول له في كتابه إليه: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص.. أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيها وصاحبها مقبور فيها ومهموم عليها لم يصب منها شيئا قط، إلا فتحت له حرصا، ولا أدخلت عليه مؤونة تزيده رغبة فيها ولن يستغني صاحبها بما ناله عما لم يبلغه، ومن وراء ذلك فراق ما جمع والسعيد من وعز بغيره، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله، ولا تجارين معاوية في باطله، فإن معاوية غمط الناس، وسفه الحق.
إنه يرفض أن تحدد علاقات الناس به، أو علاقاته بهم منفعة أو غرض.
حتى في أحرج ساعات حياته، يمعن في الرفض وفي الاستغناء. إنه يؤمن بأن الحق مقدس وأنه، جل من كل ثمن. ولا شئ على وجه الأرض يمثل الحق في يقينه مثلما يمثله الإسلام. ومن أجل ذلك نذر حياته لقضية الإسلام منذ عمره الباكر. وعاش عمره المسلم يتنفس النقاء، والصدق، والاستقامة.
ليس في حياته كلها وقفة واحدة مع المساومة، أو المداجاة، أو الالتواء.. ولعله لو شاء لكان داهية لا يشق له غبار فحدة ذكائه، واتقاد بصيرته يعطيانه من الدهاء ما يريد.
لكنه تخلى عن كل مواهب الرجل الداهية وأحل مكانها كل مواهب الرجل الورع.
إن فهمه لحقيقة الإسلام. وأن ولاءه الوثيق له قد حملا حياته من الأعباء فوق ما تطيق. ولقد كان بعض جهاده وبلائه كفيلا بأن يبوئه مكانه العالي بين الأخيار الصادقين. ولكن الرجل الذي وصفه الرسول بأنه مخشوشن في سبيل الله قد أخذ نفسه بعزائم الأمور، وناط قدرته وطاقته بالمستحيل، ونذر للإسلام حياة استقلها، فراح يحملها أعباء مائة حياة.
ومع أيامه المجيدة التي عاشها في دنيا الناس هذه، حقق الإسلام فيه معجزة الصياغة تلك المعجزة المتمثلة في قدرة هذا الدين على صياغة العظمة الانسانية في أحسن تقويم.
إن ابن أبي طالب في كل مجالات حياته، لواحد من أولئك الذين تجلى فيهم إعجاز الإسلام، فلنواصل سيرنا معه، لنرى كيف تكون العظمة الانسانية وكيف يكون العظماء.