شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٦

عليه نبأه معهم. فاستقبل الرسول القوم وقال: أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله، إنه لأخشن في سبيل الله من أن يشكى.
وهو بإسلامه وفي إسلامه لا يتغير طفلا وشابا وشيخا جنديا وقائدا وخليفة للمسلمين.. إن تقوى الله تأخذ عليه لبة وهو لا يعامل الناس بذكائه، ولا بحسبه ونسبه.
بل بإخلاصه وتقواه.. ثم هو لا يريد منهم، بل ولا يقبل منهم أن يعاملوه بغير الصدق والتقوى. من أجل هذا سنراه حين يقع الصدام بينه وبين معاوية يؤثر الهزيمة مع الإخلاص والتقوى. على انتصار يتحقق بالمكر والمراوغة. ويقول له ابن عمه عبد الله بن عباس وهو الصالح الورع: خادعهم، فإن الحرب خدعة، فيجيبه الإمام الطاهر: لا والله لا أبيع ديني بدنياهم أبدا. مسلم عظيم يفجر الدنيا من حواليه ذمة، واستقامة، وطهرا.
وكذلك نراه وهو يخطب أصحابه في أول جمعة، بالكوفة، وهو أمير المؤمنين، لا يخطب خطبة خليفة ولا أمير ولا حاكم.. لا يصدر قرارات، ولا يرسم سياسة على كثرة ما كانت الظروف تتطلب من قرارات، وسياسة بل لا يجعل خطابه الأول هذا استجابة لحماس أصحابه وشد زناد الحمية في أنفسهم استعدادا للمعركة التي سيخوضونها مع جيش الشام المقاتل، المدرب، الصعب المراس، لا شئ من ذلك كله يضمنه الخليفة والإمام خطابه. إنما هي الدعوة الخالصة لتقوى الله وحسن عبادته وطاعته اسمعوا: أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن تقوى الله خير تواصى به عباده، وأقرب الأعمال لرضوانه، وأفضلها في عواقب الأمور عنده. وبتقوى الله أمرتم، وللإحسان خلقتم.. فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فإنه حذر بأسا شديدا.
واخشوا الله ليست بتعذير واعملوا من غير رياء ولا سمعة، فإن من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل ومن عمل مخلصا له تولاه الله وأعطاه فضل نيته، وأشفقوا من عذاب الله فإنه لم يخلقكم عبثا ولم يترك شيئا من أمركم سدى قد سمى آثاركم، وعلم أسراركم وأحصى أعمالكم، وكتب آجالكم فلا تغرنكم الدنيا، فإنها غرارة لأهلها، والمغرور من اغتر بها وإن الآخرة لهي دار القرار.
أهذا خطاب رئيس دولة؟ كلا إنما هو خطاب ناسك. خطاب مسلم ومؤمن وجه وجهه وقلبه وحياته للذي فطر السماوات والأرض، لا يعنيه إلا أن يحيا في مرضاته تقيا، وأن يحيا الذين من حوله أتقياء، أنقياء.
كذلك نراه ونرى إسلامه الوثيق حين لم يعد، بد من لقاء معاوية في معركة صفين يستقبل جيشه ليلة المعركة خطيبا، فلا يعدهم ولا يمنيهم. ولا يرفع أمامهم مباهج الدنيا ونعيمها، ثمنا للنصر إذا هم ظفروا به.. إنما يحدثهم حديثا آخر يختلف عن كل الأحاديث التي تتطلبها أمثال هذه المناسبة. أنظروا.. ألا إنكم ملاقوا القوم غدا فأطيلوا الليلة قيامكم وصلاتكم وأكثروا تلاوة القرآن، وسلوا الله الصبر والعفو والعافية.
في أوقات السلم، وفي أوقات الحرب فوق ثبج النصر، وتحت وقع الهزيمة في سرائه، وفي ضرائه لا يستولي عن تفكيره، وعلى ضميره، وعلى شعوره سوى تقوى الله سبحانه. وحتى وهو يكتب إلى عمرو بن العاص الذي انحاز إلى صف معاوية، وبات يشكل خطرا حقيقيا على جبهة الإمام، لا نلتقي بالإمام يمني عمرا بدنيا، ولا يستميله إلى هوى نفس السلاح الذي كان معاوية يكسب به الأنصار بل نبصره يصدع عمرا بالحق في غير مساومة، ولا مجامل. إنه يناشده تقوى الله لا غير، هذه التقوى التي تجري من بن أبي طالب مجرى الدم، فيقول له في كتابه إليه: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص.. أما بعد، فإن الدنيا مشغلة عن غيها وصاحبها مقبور فيها ومهموم عليها لم يصب منها شيئا قط، إلا فتحت له حرصا، ولا أدخلت عليه مؤونة تزيده رغبة فيها ولن يستغني صاحبها بما ناله عما لم يبلغه، ومن وراء ذلك فراق ما جمع والسعيد من وعز بغيره، فلا تحبط أجرك أبا عبد الله، ولا تجارين معاوية في باطله، فإن معاوية غمط الناس، وسفه الحق.
إنه يرفض أن تحدد علاقات الناس به، أو علاقاته بهم منفعة أو غرض.
حتى في أحرج ساعات حياته، يمعن في الرفض وفي الاستغناء. إنه يؤمن بأن الحق مقدس وأنه، جل من كل ثمن. ولا شئ على وجه الأرض يمثل الحق في يقينه مثلما يمثله الإسلام. ومن أجل ذلك نذر حياته لقضية الإسلام منذ عمره الباكر. وعاش عمره المسلم يتنفس النقاء، والصدق، والاستقامة.
ليس في حياته كلها وقفة واحدة مع المساومة، أو المداجاة، أو الالتواء.. ولعله لو شاء لكان داهية لا يشق له غبار فحدة ذكائه، واتقاد بصيرته يعطيانه من الدهاء ما يريد.
لكنه تخلى عن كل مواهب الرجل الداهية وأحل مكانها كل مواهب الرجل الورع.
إن فهمه لحقيقة الإسلام. وأن ولاءه الوثيق له قد حملا حياته من الأعباء فوق ما تطيق. ولقد كان بعض جهاده وبلائه كفيلا بأن يبوئه مكانه العالي بين الأخيار الصادقين. ولكن الرجل الذي وصفه الرسول بأنه مخشوشن في سبيل الله قد أخذ نفسه بعزائم الأمور، وناط قدرته وطاقته بالمستحيل، ونذر للإسلام حياة استقلها، فراح يحملها أعباء مائة حياة.
ومع أيامه المجيدة التي عاشها في دنيا الناس هذه، حقق الإسلام فيه معجزة الصياغة تلك المعجزة المتمثلة في قدرة هذا الدين على صياغة العظمة الانسانية في أحسن تقويم.
إن ابن أبي طالب في كل مجالات حياته، لواحد من أولئك الذين تجلى فيهم إعجاز الإسلام، فلنواصل سيرنا معه، لنرى كيف تكون العظمة الانسانية وكيف يكون العظماء.
(٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 4 5 6 6 6 6 17 18 19 20 21 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مستدرك ترجمة الإمام على عليه السلام 3
2 مستدرك ألقابه عليه السلام وكناه الشريفة 32
3 مولد علي عليه السلام 33
4 تزويج أمير المؤمنين بفاطمة الزهراء عليهما السلام 41
5 حديث: علمني ألف باب يفتح من كل باب ألف باب 50
6 حديث: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطى على تسعة 57
7 كلام ابن عباس في علم علي عليه السلام 57
8 حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها 58
9 حديث: سلوني قبل أن تفقدوني 58
10 قول على عليه السلام: سلوني عن طرق السماوات فإني أعلم بها من طرق الأرض 68
11 جوابه عليه السلام لليهود 69
12 لأمير المؤمنين علم ظاهر كتاب الله وباطنه 70
13 أول من وضع علم النحو علي بن أبى طالب عليه السلام 77
14 علمه عليه السلام بالجفر 87
15 ما ورد أن أمير المؤمنين كان أفرض أهل المدينة وأقضاها 93
16 مستدرك أقضى الأمة علي عليه السلام 101
17 حديثه وحديث ابن عباس في ذلك 101
18 حديث جابر وأنس بن مالك 102
19 حديث عبد الله بن مسعود 103
20 قول عمر علي أقضانا 106
21 قصة زبية الأسد وقضاء علي عليه السلام 120
22 قضاؤه عليه السلام في الأرغفة 125
23 أمر علي عليه السلام الزوجين أن يبعثا حكما من أهلهما 129
24 من أقضيته عليه السلام 131
25 أول من فرق الخصوم علي عليه السلام 173
26 جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة 173
27 قضاؤه في الخنثى المشكل سأله معاوية 174
28 قضاؤه في ثلاثة نفر وقعوا على امرأة ولدت 175
29 عدل علي عليه السلام في الحكومة 189
30 ما ورد في زهد أمير المؤمنين وعدله وإنفاقه في سبيل الله تعالى 212
31 من عدله أمره بكنس بيت المال ثم ينضحه ويصلى فيه ولم يحبس فيه المال عن المسلمين 250
32 زهد علي عليه السلام وعدله 255
33 عفوه عليه السلام وحلمه وصفحه عن عدوه 288
34 من عدله ما أوصاه في قاتله بإطعامه وسقيه والاحسان إليه وعدم التمثيل به 289
35 خوفه عليه السلام من الله تعالى 296
36 إنفاقه في سبيل الله تعالى 297
37 إعطاؤه عليه السلام حلة للسائل الذي كتب حاجته على الأرض بأمره 297
38 صدقات علي عليه السلام 301
39 شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 305
40 قتل أمير المؤمنين حية وهو في المهد صبي 338
41 مبيته علي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الهجرة 339
42 ان عليا كان معه راية رسول الله " ص " في بدر وأحد وغيرهما 341
43 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم بدر 344
44 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم أحد 351
45 لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي 357
46 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم الأحزاب 363
47 ما ورد في شجاعته يوم خيبر 374
48 ما ورد في شجاعته يوم حنين والطائف 396
49 شجاعته عليه السلام في بنى قريظة 399
50 شجاعته عليه السلام في حرب جمل 399
51 إخبار النبي " ص " لعلي عما يكون بينه وبين عائشة 403
52 قول النبي لأزواجه: أيتكن صاحبة الجمل تنبحها كلاب الحوأب 405
53 جعل رسول الله " ص " طلاق نسائه بيد علي في حياته وبعد مماته 412
54 إخفاء عائشة اسم أمير المؤمنين علي عليه السلام 414
55 قصة حرب الجمل 417
56 ما صدر من شجاعته عليه السلام يوم صفين 513
57 قتل مع علي بصفين من البدريين خمسة وعشرون بدريا 520
58 شجاعته عليه السلام يوم النهروان 523
59 الخوارج والأخبار الواردة فيهم عن النبي والوصي عليهما السلام 523
60 ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم 536
61 إخباره عليه السلام عن الخوارج وعن ذي ثديتهم 537
62 اخبار النبي " ص " عن الخوارج المارقة 582
63 اخبار النبي " ص " عن شهادة علي عليه السلام 595
64 حديث أنس بن مالك 595
65 حديث أبى رافع 596
66 حديث جابر بن سمرة 597
67 اخباره عليه السلام عن شهادة نفسه 603
68 حديث محمد بن الحنفية 603
69 حديث فضالة بن أبى فضالة 604
70 حديث الأصبغ بن نباتة الحنظلي 606
71 حديث زيد بن وهب 609
72 حديث أبى مجلز وأبى الأسود 610
73 حديث أبى الطفيل 611
74 حديث نبل بنت بدر 613
75 حديث سالم بن أبى الجعد 614
76 حديث عبيدة وأم جعفر 615
77 حديث عثمان بن مغيرة 616
78 حديث كثير وروح بن أمية 617
79 حديث يزيد بن أمية الديلي 618
80 حديث عبد الله بن سبع 619
81 حديث ثعلبة بن يزيد الحماني 620
82 حديث والد خالد أبي حفص 620
83 ما روى جماعة مرسلا 621
84 استشهاد أمير المؤمنين بيد أشقى الناس ابن ملجم 624
85 قول علي عليه السلام: فزت ورب الكعبة 643
86 إن قاتل علي عليه السلام أشقى الأولين والآخرين وأشقى الناس 644
87 وصايا أمير المؤمنين حين رحلته إلى دار البقاء 653
88 تاريخ شهادته عليه السلام وسني عمره حين الشهادة 662
89 محل دفن جثمانه الشريف 667
90 حنوط علي من فضل حنوط رسول الله " ص " 673
91 قتل ابن ملجم اللعين 673
92 أزواجه عليه السلام 674
93 أولاده الأشراف السادة 678
94 بعض مراثيه عليه السلام 686