رجع عن المحرمات.. ومن طلب الجنة، سارع إلى الطاعات.. ومن زهد في الدنيا، هانت عليه مصائبها.. ألا، وإن لله عبادا شرورهم مأمونة وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلا لعقبى راحة طويلة إذا رأيتهم في الليل، رأيتهم صافين أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم.. وأما نهارهم فظماء حلماء بررة أتقياء كأنهم القداح.. ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى وما بهم من مرض، ولكنه الأمر العظيم.
ذلك هو شغله الشاغل ينام هديره ويصحو على زئيره. دين الله الذي حمل أمانته، وقرأ كتابه ويوم الله، الذي سيقف فيه بين يديه غدا، لينظر جزاءه وحسابه.
أو من أجل هذا، لا ينام علي ولا يستريح؟ أجل، من أجل هذا، يقضي ليله ونهاره في عبادة تضني جسمه الأيد الوثيق. ومن أجل هذا، يدع الدنيا وراءه ظهريا، فيأبى وهو خليفة للمسلمين، أن ينزل قصر الإمارة بالكوفة. ويؤثر عليه الأرض الخلاء. والدار المهجورة. ويلحون عليه كي ينزل قصر الإمارة هذا. فيجيبهم، لا قصر الخبال لا أنزله أبدا. ومن أجل هذا، يلبس الثوب الخشن، فيسأله أصحابه أن يعطي نفسه ومنصبه بعض حقهما فيقول: هذا الثوب، يصرف عني الزهو ويساعدني على الخشوع في صلاتي. وهو قدوة صالحة للناس، كي لا يسرفوا ويتبذخوا.
ثم يتلو القرآن العظيم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). إنه لا يركن إلى الدنيا لحظة من نهار. إنها بالنسبة له، قد أدبرت وآذنت بوداع فلماذا إذن يعطيها ولاءه وبلاءه؟ إن الآخرة عند الإمام هي الدار هي الأبد وما أهل الدنيا في شتى العصور والدهور إلا سائرون فوق جسر كلما انتهى من عبوره قوم وجدوا أنفسهم أمام الأبدية حيث الجنة، أو النار. ألا فلنصغ لحديثه: إن المضمار اليوم، وغدا السباق.. ألا وإنكم في أيام أمل، من ورائه أجل.. فمن قصر في أمله قبل حضور أجله فقد خاب علمه.. ألا فاعملوا لله في الرغبة، كما تعلمون له في الرهبة.. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها ولم أر كالنار نام هاربها. ألا وإن من لم ينفعه الحق، ضره الباطل.. ومن لم يستقم به الهدى، حاد به الضلال. ألا وإن الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر.. وإن الآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قادر.. وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل.. فإن اتباع الهوى، يصد عن الحق.. وإن طول الأمل، ينسي الآخرة.
فلتأت الأحداث والأهوال عاصفة، تقتلع الجبال من حول الأمام، فإنه لن يتبع الهوى أبدا. فإن اتباع الهوى يصد عن الحق. ولتبذل الدنيا له كل نفسها وزينتها ، وبهجتها، وإغرائها، فإنه لن يربطها به أمل ولا رجاء. فإن طول الأمل، ينسي الآخرة.
وهو رضي الله عنه لا يريد أن يتوه عن الحق، ولا يريد أن ينسى الآخرة. فالحق حياته والآخرة داره.
على أن زهد ابن أبي طالب في الدنيا، وعزوفه عنها ليس زهد الهاربين من تبعات الوجود ومسئوليات الحياة. إنما هو زهد يشكله إسلامه، الذي يجعل المسؤولية العادلة دينا، ويجعل العمل الصالح الدائب عبادة وقربى. وهنا نلتقي ب علي يصحح المعايير والموازين، إذ لا يكاد يسمع رجلا يذم الدنيا مذمة العاجز المتواكل حتى يقول: الدنيا دار صدق، لمن صدقها ودار نجاة، لمن فهم عنها، ودار غنى وزاد لمن تزود منها.
مهبط وحي الله.. ومسجد أنبيائه.. ومتجر أوليائه.. ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة. أجل هذه هي دنيا المسلم، كما يفهمها ربيب الوحي، وسابق المسلمين..
دار عمل لا لهو يكدح فيها الانسان لينشئ لنفسه مصيرا سعيدا يوم يقوم الناس لرب العالمين. وهي دار صدق، لمن عاش فيها صادقا مع مسؤولياته وتبعاته ودار نجاة، لمن سار فيها على درب النجاة.
وبهذا الفهم السديد للدنيا، ربحها علي وربح بها مصيره وأخراه. فهي بالنسبة له، لم تكن دار لعب ولهو أبدا. منذ طفولته الباكرة، حمل الإسلام في قلبه. وحمل معه كل أعباء الرجال. ولقد قطع حياته وقضى أيامه على الأرض في كفاح موصول، ونضال لم يعرف الراحة يوما. وعاش كما وصفه الرسول عليه السلام: مخشوشن في سبيل الله.
مقت الترف من كل نفسه، ونأى عنه بكل قوته وعزمه. ذلك أنه فهم الإسلام وعاشه، وتعلم منه أن الترف مشغلة الفارغين العاطلين. والإنسان الذي يعيش مع مسؤوليات كبار كتلك التي يفرضها الإسلام الحق على أبنائه الحقيقيين وأهله إنما يكون حظه من الصدق والتوفيق مضاهيا حظه من البساطة والتخشن. وهكذا كان الإمام، وهكذا أراد للناس أن يكونوا.
عندما قدم مكة من اليمن ورسول الله يومئذ يحجحجة الوداع، تعجل هو إلى لقاء النبي تاركا جنوده الذين عادوا معه على مشارف مكة بعد أن أمر عليهم أحدهم.
وبدا لهذا الأمير المستخلف أن يلبس الجند حللا زاهية من تلك التي عادوا بها من اليمن، حتى يدخلوا مكة وهم في زينتهم يسر منظرهم الأعين. وأمرهم، فأخرجوا من أوعيتهم حللا جديدة ارتدوها، واستأنفوا سيرهم إلى مكة. وعاد علي بعد لقاء الرسول، ليصحب جنده القادمين وعلى أبواب مكة رآهم مقبلين في حللهم الزاهية.
وأسرع نحوهم، وسأل أميرهم: ويلك ما هذا؟ قال: لقد كسوت الجند ليتجملوا إذا قدموا على إخوانهم في مكة. وصاح به علي: ويلك انزع قبل أن تنتهي بهم إلى رسول الله. فخلعوا حللهم جميعا، وكظموا في أنفسهم مرارة بما صنع بهم علي الورع، الزاهد، الأواب.. ولما دخلوا مكة، ولقوا الرسول، شكا إليهم بعضهم عليا، وقصوا