وإنه سابق المسلمين، ألم يسمع القرآن يتساءل في هدير ورهبة: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) بأي حديث.
إن الفتى الأواب ليرتجف من هول التساؤل، وجلال الخطاب ويجيب في صيحة مكظومة: لا بحديث غير حديثك نؤمن، يا رب كل شئ. ومن هذه الآية، ومثلها معها من آيات القرآن العظيم، أشرب قلب علي ولاء للقرآن ليس له نظير.
ألم يسمع القرآن يحدد للرسول طريقه المستقيم فيقول: (ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون).
إنه أيضا من هذه الآية، ومثلها من آيات القرآن وتعاليم السماء، ليستمد عزما خارقا على أن يسير فوق صراط الحق بخطى ثابتة راسخة أكيدة، متخطيا أهواء الذين لا يعلمون في استقامة قديس، وشموخ مقتدر. لك الله أبا الحسن أكنت تدري، أي معارك ضارية ستخوضها غدا ضد أهواء الذين لا يعلمون؟
من ولائه الوثيق للقرآن، وشهوده فجر الوحي وضحاه كان علي ربيب الوحي.
ومن ولائه الوثيق للإسلام، وسبقه إليه قبل غيره من رجال العالمين كان علي سابق المسلمين. وسابق المسلمين لقب لا يستحقه علي لمجرد سبقه إلى الإسلام. فعلي، هو الذي علم الناس فيما بعد، أنه: ليس الطريق لمن سبق بل لمن صدق. إنما يستحقه لأنه حاز كلتا الحسنيين: السبق والصدق.
وحين نتتبع مظاهر إسلامه نرى عجبا وحين نستقبل شمائل إيمانه، نستقبل روضات يانعات نتأنق فيهن، ويثملنا عبيرها، وطهرها وتقاها.
والآن، ما بالكم برجل اختاره الرسول من بين أصحابه جميعا: ليكون في يوم المؤاخاة أخاه؟ وكيف كانت أبعاد إيمانه وأعماقه، حتى آثره الرسول بهذه المكرمة والمزية؟
عندما تمت هجرة النبي والمسلمين إلى المدينة، آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار وجعل لكل أنصاري أخا من المهاجرين حتى إذا فرغ عليه السلام من دمجهم في هذا الإخاء العظيم رنا بصره تلقاء شاب عالي الجبهة، ريان النفس، مشرق الضمير وأشار الرسول إليه، فأقبل عليه، وبين الأبصار المشدودة إلى هذا المشهد الجليل، أجلس النبي عليا إلى جواره، وربت على كتفه، وضمه إليه وهو يقول: وهذا أخي.
لقد كان الصديق أبو بكر، وكان الفاروق عمر آنئذ هناك، فهل من حقنا أن نتساءل:
لماذا لم يختص الرسول أحدهما بهذا الذي اختص به عليا؟ إن تساؤلا كهذا يفسد جلال المشهد ويفوت علينا رواءه والمسلم الذي ينشد الأدب مع رسول الله وأصحابه يحني هامته إجلالا لهذا الرعيل الأول والأسبق من أصحابه على حد سواء.
اختار الرسول إذن عليا ليكون في هذه المؤاخاة أخاه، وكل شرف كان الإسلام يضفيه علي ابن أبي طالب كان يزيد إحساسه بمسئولياته الدينية شحذا، وقوة. ولم يكن في طول الدنيا وعرضها ما يراه ابن أبي طالب كفوا لأن يكون مثوبة على إسلامه وأجرا.
إن الإمام كرم الله وجهه كان يعرف تماما قيمة الذي هداه ربه إليه، وكان من الذين يؤمنون بأن الخير مثوبة نفسه. فالذي يوفق للخير ولحق يكون جاهلا بقيمة الحق والخير، إذا هو طلب من الدنيا مثوبة وأجرا نظير فعله الخير وحمله راية الحق.
وهكذا حمل علي إسلامه بين جنبيه، وتحت ضلوعه، وفي أعماق روحه، ومضى يستصغر شأن الدنيا بكل فنونها وزينتها.
وكلما تراءت له مباهجها سدها بعبارته المأثورة: يا دنيا، إليك عني.. يا دنيا، غري غيري. وعلي في إسلامه، نموذج عظيم مكتمل الشكل والجوهر. فإذا كان الإسلام عبادة، ونسكا جهادا، وبذلا ترفعا وزهدا فطنة وورعا سيادة وتواضعا قوة ورحمة عدالة وفضلا استقامة وعلما بساطة وتمكنا ولاء وفهما.
إذا كان الإسلام ذلك كله، فإن سابق المسلمين عليا كرم الله وجهه كان أحد النماذج الباهرة والنادرة لهذا الإسلام. ومن شاء أن يتعرف إلى حياة الإمام وسلوكه، فليقرأ كلماته ذلك أنه لم يكن بين مقاله وفعاله، تفاوت أو تناقض.
أجل لم يكن بين ما يقول، وما يفعل. بعد ولا مسافة، ولا فراغ.
فإذا حث الناس على الزهد، فلأنه أسبقهم إليه، وإذا حثهم على البذل، فلأنه أقدرهم عليه، وإذا حثهم على طاعة أية طاعة فلأنه يمارسها في أعلى مستوياتها. صلى الفجر يوما بأصحابه في الكوفة، وهو أمير للمؤمنين، فلما فرغ من صلاته جلس سائما جزينا ولبث في مكانه ومجلسه، والناس من حوله يحترمون صمته فلا يتحركون حتى طلعت الشمس، واستقر شعاعها العريض على حائط المسجد من داخل. فنهض الإمام علي وصلىركعتين ثم هز رأسه في أمي، وقلب يده وقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فما أرى اليوم شيئا يشبههم.. لقد كانوا يصبحون وبين أعينهم آثار ليل باتوا فيه سجدا لله، يتلون كتابه ويتراوحون بين جباههم وأقدامهم..
وإذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح.. وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم.
هذه صورة الماضي العظيم. صورة الأيام الجليلة الرائعة أيام الوحي والرسالة يعيش فيها علي العابد دوما وأبدا ولا يستطيع الزمن مهما توغل في البعد أيامه وأعوامه أن ينتزع الإمام العابد منها، فهي منسكه ومحرابه.
وإنه ليحدث المسلمين عن الإسلام الذي آمن به، وجعله كتاب حياته، فيقول:
تعلموا العلم، تعرفوا به، واعملوا، وكونوا من أهله.. ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإن الآخرة قد أتت مقبلة ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا. ألا وإن الزاهدين في الدنيا قد اتخذوا الأرض بساطا، والتراب فراشا، والماء طيبا. ألا وإن من اشتاق إلى الآخرة، سلا عن الشهوات.. ومن أشفق من النار،