(١) قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوته، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له - فيما بلغني -:
يا أبا طالب، هذا عمارة بن الوليد أنهد " أشهد " فتى في قريش وأجمله فخذه، فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا، الذي قد خالف دينك ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامهم، فنقتله، فإنما هو رجل برجل، فقال: والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟ هذا والله ما لا يكون أبدا (سيرة ابن هشام):
٢ / ١٠١ - ١٠٢، قريش تعرض عمارة بن الوليد على أبي طالب، (البداية والنهاية): ٣ / ٦٣.
وروى الحافظ أبو نعيم عن ابن إسحاق عن أبي بردة عن أبيه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة، فبلغ ذلك قريشا، فبعثوا عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد، وجمعوا للنجاشي هدية، فقدما على النجاشي، فأتياه بالهدية فقبلها، ثم قال عمرو بن العاص: إن ناسا من أرضنا رغبوا عن ديننا، وهم بأرضك، فبعث إلينا، فقال لنا جعفر: لا يتكلم منكم أحد، أنا خطيبكم اليوم، فانتهيت، إلى النجاشي وهو جالس في مجلسه، وعمرو بن العاص عن يمينه، وعمارة عن يساره، والقسيسون والرهبان سماطين " صفين "، قد قال لهم عمرو وعمارة: إنهم لا يسجدون، فلما انتهينا بدرنا من عنده من القسيسين والرهبان: اسجدوا للملك، فقال لهم جعفر: لا نسجد إلا لله عز وجل، قال له النجاشي: وما ذاك؟ قال: إن الله عز وجل بعث فينا رسولا، الرسول الذي بشر به عيسى عليه السلام، فأمرنا أن نعبد الله، ولا نشرك به شيئا، ونؤتي الزكاةوأمرنا بالمعروف ونهانا عن المنكر.
فأعجب النجاشي ذلك، وذكر نحوا من القصة الأولى، وقال فيه النجاشي: وأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أقبل نعله. امكثوا ما شئتم، وأمر لنا بالطعام والكسوة، وقال: ردوا على هذين هديتهما، وكان عمرو بن العاص رجلا قصيرا، وكان عمارة رجلا جميلا، وكانا أقبلا في البحر إلى النجاشي، فشربوا " يعني خمرا "، ومع عمرو امرأته، فلما شربوا قال عمارة لعمرو: مر امرأتك فلتقبلني، فقال له عمرو: ألا تستحي! فأخذ عمارة عمروا فرمى به في البحر، فجعل عمرو يناشده حتى أدخله السفينة، فحقد عليه عمرو ذلك، فقال عمرو النجاشي: إنك إذا خرجت خلفك عمارة في أهلك، فدعا النجاشي عمارة فنفخ في إحليله " سحرا " فطار مع الوحش.
قال أبو نعيم: وكل هذه الروايات عمن لا يدفع عن صدق وفهم، فهذا يدل على أن قريشا بعثت عمرو بن العاص دفعتين: مرة مع عمارة بن الوليد، ومرة مع عبد الله بن أبي ربيعة. (دلائل أبي نعيم): ١ / ٢٥٢، حديث رقم (١٩٦)، وعنه ابن كثير في (البداية والنهاية): 3 / 89 - 94، (دلائل البيهقي): 2 / 285، باب الهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الثانية، وما ظهر فيها من الآيات، وتصديق النجاشي ومن تبعه من القسيسين والرهبان رسول الله، (جمهرة النسب): 88.