يعني في نسبة الحكم لنا ظاهرا كما كان في الدورة الأولى منسوبا إلينا باطنا، وإن كان في الظاهر منسوبا لمن نسب إليه من الأنبياء، ولما كانت العرب تنسئ (1) في الشهور فترى المحرم منها حلالا والحلال منها محرما، جاء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم برد الزمان إلى أصله الذي حكم إليه به عند خالقه فبين الحرم من الشهور على حد ما خلقها الله
(1) النسي: يقال نسأه وأنسأه، إذا أخره، حكاه الكسائي. قال تعالى: (إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين).
قال الجوهري وأبو حاتم: النسئ فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشئ فهو منسوء إذا أخرته، ثم حول إلى نسئ، كما حول مقتول إلى قتيل. ورجل ناسئ، وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة.
وقيل: النسئ مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكير من أنكر، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال: النسئ تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر.
وقال الطبري: النسئ بالهمزة معناه الزيادة. قال أبو حيان: فإذا قلت: أنسأ الله أجله بمعنى أخر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسئ مرادفا للزيادة، بل قد يكون منفردا عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسئ مصدرا كان الإخبار عنه بمصدر واضحا، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسئ أي: إن نسأ النسئ، أو في زيادة، أي ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
وأخبر أن النسئ زيادة في الكفر، أي جاءت مع كفرهم بالله، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفرا. قال تعالى: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) [التوبة: 125]، كما أن المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيمانا. قال تعالى (فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) [التوبة: 124]، وأعاد الضمير في (به) على النسئ، لا على لفظ (زيادة).
وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: (يضل) مبنيا للمفعول، وهو مناسب لقوله: (زين)، وباقي السبعة مبنيا للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن ومجاهد، وقتادة، وعمرو بن ميمون، ويعقوب: (يضل) أي الله، أي يضل به الذين كفروا أتباعهم.
ورويت هذه القراءة عن الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء:
(يضل) بفتحتين، من ضللت بكسر اللام أضل بفتح الضاد منقولا، فتحها من فتحة اللام، إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن: (نضل) بالنون المضمومة وكسر الضاد، أي فضل نحن.
ومعنى تحريمهم عاما وتحليله عاما: لا يراد أن ذلك كان متداولة في الشهر بعينه، عام حلال وعام حرام، وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم، أحل لهم المحرم، وحرم صفر بدلا من المحرم، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل، حرم المحرم على حقيقته، وأحل صفر، ومشت الشهور مستقيمة، وإن هذه كانت حال القوم.
قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، الذين شرعوا النسئ هم بنوا مالك من كنانة، وكانوا الثلاثة.
وعن ابن عباس: إن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي، وهو أول من سيب السوائب وغير دين إبراهيم عليه السلام. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة.
والمواطأة: الموافقة، أي ليوافقوا العدة التي حرم الله، وهي الأربعة ولا يخالفونها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين. والواجبان هما العدد الذي هو أربعة، في أشخاص أشهر معلومة، وهي رجبوذو القعدة، وذو الحجة والمحرم. يقال: تواطؤوا على كذا، إذا اجتمعوا عليه، كأن كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. ومن الإبطاء في الشعر، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد.
قال ابن عطية: ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد، فأزالوا الفضيلة التي خص بها الأشهر الحرم وحدها، بمثابة أن يفطر رمضان، ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر. باختصار من (البحر المحيط): 5 / 416 - 418.