إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٣ - الصفحة ١٨٢
لغيره (1).

(١) هذا الحديث أخرج البخاري في كتاب التيمم، باب (١)، حديث رقم (٣٣٥): أخبرنا سيار قال:
حدثنا يزيد الفقير قال: أخبرنا جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ".
قوله: " حدثنا يزيد الفقير "، هو ابن صهيب يكني أبا عثمان، التابعي مشهور، قيل له الفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره، ولم يكن فقيرا من المال، قال صاحب المحكم: رجل فقير مكسور فقار الظهر، ويقال له: فقير بالتشديد أيضا.
فائدة: مدار حديث جابر هذا على هشيم بهذا الإسناد، وله شواهد من حديث ابن عباس وأبي موسى وأبي ذر، من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواها كلها أحمد بأسانيد حسان.
قوله صلى الله عليه وسلم: " لم يعطهن أحد قبلي "، زاد في كتاب الصلاة عن محمد بن سنان: " من الأنبياء "، وفي حديث ابن عباس: " لا أقولهن فخرا "، ومفهومه أنه لم يختص بغير الخمس المذكورة، لكن روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: " فضلت على الأنبياء بست "، فذكر أربعا من هذه الخمس، وزاد ثنتين كما سيأتي بعد.
وطريق الجمع أن يقال: لعله اطلع أولا على بعض ما اختص به، ثم اطلع على الباقي، ومن لا يرى مفهوم العدد حجة يدفع هذا الإشكال من أصله. وظاهر الحديث يقتضي أن كل واحدة من الخمس المذكورات لم تكن لأحد قبله، وهو كذلك.
ولا يعترض بأن نوحا عليه السلام، كان مبعوثا إلى أهل الأرض بعد الطوفان، لأنه لم يبق إلا من كان مؤمنا معه، وقد كان مرسلا إليهم، لأن هذا العموم لم يكن في أصل بعثته، وإنما اتقف بالحادث الذي وقع، وهو انحصار الخلق في الموجودين بعد هلاك سائر الناس، وأما نبينا صلى الله عليه وسلم فعموم رسالته من أصل البعثة، فثبت اختصاصه بذلك.
وأما قول أهل الموقف لنوح كما صح في حديث الشفاعة: " أنت أول رسول إلى أهل الأرض "، فليس المراد به عموم بعثته، بل إثبات أولية إرساله، وعلى تقدير أن يكون مرادا فهو مخصوص بتنصيصه سبحانه وتعالى في عدة آيات، على أن إرسال نوح كان إلى قومه ولم يذكر أنه أرسل إلى غيرهم.
واستدل بعضهم لعموم بعثته، بكونه دعا على جميع من في الأرض، فأهلكوا بالغرق إلا أهل السفينة، ولو لم يكن مبعوثا إليهم لما أهلكوا، لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، وقد ثبت أنه أول الرسل.
وأجيب بجواز أن يكون غيره أرسل إليهم في أثناء مدة نوح، وعلم نوح بأنهم لم يؤمنوا، فدعا على من لم يؤمن من قومه ومن غير هم فأجيب، وهذا جواب حسن، لكن لم ينقل أنه نبئ في زمن نوح غيره.
ويحتمل أن يكون معنى الخصوصية لنبينا صلى الله عليه وسلم في ذلك بقاء شريعته إلى يوم القيامة، ونوح وغيره بصدد أن يبعث نبي في زمانه، أو بعده، فينسخ بعض شريعته، ويحتمل أن يكون دعاؤه قومه إلى التوحيد، بلغ بقية الناس، فتمادوا على الشرك فاستحقوا العذاب، وإلى هذا نحا ابن عطيه في تفسيره سورة هود قال:
وغير ممكن أن تكون نبوته لم تبلغ القريب والبعيد لطول مدته، ووجهه ابن دقيق العيد بأن توحيد الله تعالى يجوز أن يكون عاما في حق بعض الأنبياء، وإن كان التزام فروع شريعته ليس عاما، لأن منهم من قاتل غير قومه على الشرك، ولو لم يكن التوحيد لازما لهم لم يقاتلهم.
ويحتمل أنه لم يكن في الأرض عند إرسال نوح إلا قوم نوح، [وهذا الاحتمال الأخير أظهر مما قبله، لقول الله تعالى: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن)، وقوله تعالى:
(وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا)] فبعثته خاصة لكونها إلى قومه فقط، وهي عامة في الصورة لعدم وجود غيرهم، لكن لو اتفق وجود غيرهم لم يكن مبعوثا إليهم.
وغفل الداودي الشارح غفلة عظيمة فقال: قوله: " لم يعطهن أحد " يعني لم تجمع قبله، لأن نوحا بعث إلى كافة الناس، وأما الأربع فلم يعط أحد واحدة منهن. وكأنه نظر في أول الحديث وغفل عن آخره، لأنه نص صلى الله عليه وسلم على خصوصيته بهذه أيضا لقوله: " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة "، وفي رواية مسلم: " وكان كل نبي ".
قوله صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالرعب "، زاد أبو أمامة: " يقذف في قلوب أعدائي "، أخرجه الإمام أحمد.
قوله صلى الله عليه وسلم: " مسيرة شهر "، مفهومه أنه لم يوجد لغيره النصر بالرعب في هذه المدة ولا في أكثر منه، أما ما دونها فلا، لكن لفظ رواية عمرو بن شعيب: " ونصرت على العدو بالرعب، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر "، فالظاهر اختصاصه به مطلقا، وإنما جعل الغاية شهرا، لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه أكثر منه، وهذه الخصوصية حاصلة له على الإطلاق، حتى لو كان وحده بغير عسكر، وهل هي حاصلة لأمته من بعده؟ فيه احتمال.
قوله صلى الله عليه وسلم: " وجعلت لي الأرض مسجدا "، أي موضع سجود، لا يختص السجود منها بموضع دون غيره، ويمكن أن يكون مجازا عن المكان المبني للصلاة، وهو من مجاز التشبيه، لأنه لما جازت الصلاة في جميعها، كانت كالمسجد في ذلك.
قال ابن التين: قيل: المراد جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وجعلت لغيري مسجدا، ولم تجعل له طهورا، لأن عيسى عليه السلام، كان يسبح في الأرض، ويصلي حيث أدركته الصلاة، كذا قال، وسبقه إلى ذلك الداودي.
وقيل: إنما أبيحت لهم في موضع يتيقنون طهارته، بخلاف هذه الأمة، فأبيح لها في جميع الأرض، إلا فيما يتيقنوا نجاسته، والأظهر ما قاله الخطابي، وهو أن من قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في أماكن مخصوصة، كالبيع والصوامع:، ويؤيده رواية عمرو بن شعيب بلفظ: " وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم "، وهذا نص في موضع النزاع، فثبتت الخصوصية، ويؤيده ما أخرجه البزار من حديث ابن عباس نحو حديث الباب فيه: " ولم يكن من الأنبياء أحد يصلي حتى يبلغ محرابه ".
قوله صلى الله عليه وسلم: " وطهورا "، استدل به على أن الطهور هو المطهر لغيره، لأن الطهور لو كان المراد به الطاهر لم تثبت الخصوصية، والحديث إنما سيق لإثباتها. وقد روى ابن المنذر، وابن الجارود، بإسناد صحيح، عن أنس مرفوعا: " جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا "، ومعنى طيبة طاهرة، فلو كان معنى طهورا طاهرا للزم تحصيل الحاصل.
واستدل به على أن التيمم يرفع الحدث كالماء لاشتراكهما في هذا الوصف، قال الحافظ في (الفتح): " وفيه نظر ". قال محققه: " ليس للنظر المذكور وجه، والصواب أن التيمم رافع للحدث كالماء، عملا بظاهر الحديث المذكور، وما جاء في معناه وهو قول جم غفير من أهل العلم. والله تعالى أعلم. (ا. ه‍).
وعلى أن التيمم جائز بجميع أجزاء الأرض، وقد أكد في رواية أبي أمامة بقوله: " وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجدا وطهورا ".
(١٨٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 176 177 178 179 181 182 182 186 187 188 189 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ذكر مجيء الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالات ربه تعالى 3
2 ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم 3
3 ذكر الاختلاف في شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى كان وأين وقع؟ 32
4 ذكر مجيء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي خلقه الله عليها 39
5 ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 45
6 ذكر تعليم جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة 53
7 وأما إقامة جبريل عليه السلام أوقات الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمه فيها 60
8 ذكر الجهة التي كان صلى الله عليه وسلم يستقبلها في صلاته 81
9 ذكر من قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة 94
10 فصل في ذكر الفضائل التي خص الله تعالى بها نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وشرفه بها على جميع الأنبياء 95
11 فأما أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين 96
12 وأما مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة، ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه 105
13 وأما دفع الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قرفه به المكذبون، ونهى الله تعالى العباد عن مخاطبته باسمه 108
14 وأما دفع الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرفه المكذبون له 111
15 وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطأ ولا زلة 112
16 وأما أخذ الله تعالى الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه إن أدركوه 116
17 وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى الله عليه وسلم 122
18 وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتى به 132
19 وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم 145
20 وأما أمر الكافة بالتأسي به قولا وفعلا 154
21 وأما اقتران اسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى 167
22 وأما تقدم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل تمام خلق آدم عليه السلام 169
23 ذكر التنويه بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمن آدم عليه السلام 187
24 وأما شرف أصله، وتكريم حسبه، وطيب مولده صلى الله عليه وسلم 204
25 وأما أن أسماءه خير الأسماء 216
26 وأما قسم الله تعالى بحياته صلى الله عليه وسلم 221
27 وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم 224
28 فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما وسلامه 241
29 وأما اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر 263
30 ذكر المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم 288
31 تنبيه وإرشاد 292
32 إيضاح وتبيان 295
33 وأما حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكوثر 297
34 وأما كثرة أتباعه صلى الله عليه وسلم 309
35 وأما الخمس التي أعطيها صلى الله عليه وسلم 311
36 وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزان الأرض 315
37 وأما تأييده بقتال الملائكة معه 319
38 وأما أنه خاتم الأنبياء 334
39 وأما أن أمته خير الأمم 338
40 وأما ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته صلى الله عليه وسلم 345
41 ثم جاءني محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم 378
42 وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 379
43 ومن إعلامه في التوراة 385
44 ومن إعلامه في التوراة أيضا 386
45 ومن ذكر شعيا له 387
46 ومن ذكر شعيا له 388
47 وفي حكاية يوحنا عن المسيح 390
48 وفي إنجيل متى 391
49 وذكر شعيا طريق مكة فقال: 394
50 وأما سماع الأخبار بنبوته من الجن وأجواف الأصنام ومن الكهان 396