إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٣ - الصفحة ١٧٩
[وأعطى] (١) الله محمدا صلى الله عليه وسلم ما لم يعط غيره، فمن ذلك القرآن لم يبدل [ولم يحرف] (٢)، ولا نسخت شريعته بل ثبتت محفوظة، واستقرت بكل عين ملحوظة، يستشهد بها على كل طائفة، خص صلى الله عليه وسلم بعلم الأولين والآخرين، وبالتؤدة والرفق والرحمة ﴿وكان بالمؤمنين رحيما﴾ (٣)، وما غلظ على من غلظ إلا بالأمر الإلهي حين قيل له ﴿جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم﴾ (٤)، فصحت له السيادة على العالم بما تقرر، فإنه لم يحصل لغيره.
قال تعالى ﴿يحرفونه من بعد ما عقلوه﴾ (٥)، وقال: ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾ (6)، فلذلك ثبت القرآن ولم يحرف، وكذا علمه الإحاطي لم يكن لغيره ممن تقدمه. ومما خص به: السيف الذي بعث به، وقتال الملائكة معه، فإن ذلك لم يكن لغيره، وهو من رتبة الكمال، وبعث من قوم ليس لهم هم إلا في قرى الضيفان ونحر الجزور، والقتال الدائم الذي لم يكن في غيرهم من الناس، وبهذا ولهذا كانوا يتمدحون كما هو معروف في أشعارهم، ولا خفاء عند كل أحد بفضل العرب على العجم بالكرم والشجاعة، وإن كان في العجم كرماء وشجعان كما في العرب بخلاء وجبناء لكن آحاد، والكلام يقع في الغالب لا في النادر، فهذا أمر لا ينكره أحد.
ومما اختص به صلى الله عليه وسلم أنه حببت إليه النساء (7)، فإن حبهن بكون الله تعالى حببهن إليه، فكان يحبهن. ومن سنته النكاح لا التبتل، وجعل النكاح عبادة، وحبب إليه أيضا الطيب (7)

(١) في (خ) " وأعطا ".
(٢) في (خ) " ولا حرف ".
(٣) الأحزاب: ٤٣.
(٤) التوبة: ٧٣، التحريم: ٩.
(٥) البقرة: ٧٥.
(٦) الحجر: ٩.
(٧) أخرجه النسائي في كتاب عشرة النساء، باب (١)، حب النساء، حديث رقم (٣٩٤٩): حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الرحمن النسائي قال: أخبرنا الحسين بن عيسى القومسي قال: حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا سلام أبو المنذر عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة ". وحديث رقم (٣٩٥٠): أخبرنا علي بن مسلم الطوسي قال: حدثنا سيار قال: حدثنا جعفر قال: حدثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" حبب إلي النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ".
قال الحافظ السيوطي: قال بعضهم: في هذا قولان: أحدها: أنه زيادة في الابتلاء والتكليف، حتى يلهو بما حبب إليه من النساء، عما كلف من أداء الرسالة، فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره.
والثاني: لتكون خلواته مع ما يشاهدها من نسائه، فيزيل عنه ما يرميه به المشركين من أنه ساحر أو شاعر، فيكون تحببهن على وجه اللطف به، وعلى القول الأول على وجه الابتلاء، وعلى القولين فهو له فضيلة.
وقال التستري في (شرح الأربعين): " من " في هذا الحديث بمعنى " في "، لأن هذه من الدين لا من الدنيا، وإن كانت فيها. والإضافة في رواية " دنياكم " للإيذان بأن لا علاقة له بها.
وفي هذا الحديث: إشارة إلى وفاقه صلى الله عليه وسلم بأصلي الدين، وهما التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، وهما كمال لقوتيه، النظرية والعملية، فإن كمان الأولى بمعرفة الله، والتعظيم دليل عليها، لأنه لا يتحقق بدونها، والصلاة لكونها مناجاة الله تعالى على ما قال صلى الله عليه وسلم: " المصلي يناجي ربه "، نتيجة التعظيم على ما يلوح من أركانها ووظائفها.
وكمال الثانية في الشفقة وحسن المعاملة مع الخلق، وأولى الخلق بالشفقة بالنسبة إلى كل واحد من الناس، نفسه وبدنه، كما قال صلى الله عليه وسلم: " أبدا بنفسك ثم بمن تعول "، والطيب أخص الذات بالنفس، ومباشرة النساء ألذ الأشياء بالنسبة إلى البدن، مع ما يتضمن من حفظ الصحة، وبقاء النسل المستمر لنظام الوجود، ثم إن معاملة النساء، أصعب من معاملة الرجال، لأنهن أرق دينا، وأضعف عقلا، وأضيق خلقا، كما قال صلى الله عليه وسلم: " ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم منكن ".
فهو عليه الصلاة والسلام أحسن معاملتهن بحيث عوتب بقوله تعالى (تبغي مرضاة أزواجك)، وكان صدور ذلك طبعا لا تكلفا، كما يفعل الرجل ما يحبه من الأفعال، فإذا كانت معاملته معهن هذا، فما ظنك بمعاملته مع الرجال، الذين هم أكمل عقلا، وأمثل دينا، وأحسن خلقا؟.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " وجعلت قرة عيني في الصلاة "، إشارة إلى أن كمال القوة النظرية أهم عنده وأشرف في نفس الأمر، وأما تأخيره فللتدرج التعليمي من الأدنى إلى الأعلى، وقدم الطيب على النساء لتقدم حظ النفس على حظ البدن في الشرف.
وقال الحكيم الترمذي في (نوادر الأصول): الأنبياء زيدوا في النكاح لفضل نبوتهم، وذلك أن النور إذا امتلأ منه الصدر، ففاض في العروق، التذت النفس والعروق، فأثار الشهوة وقواها.
وروي عن سعيد بن المسيب أن النبيين عليهم الصلاة والسلام، يفضلون بالجماع على الناس، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعطيت قوة أربعين رجلا في البطش والنكاح، وأعطي المؤمن قوة عشرة "، فهو بالنبوة، والمؤمن بإيمانه، والكافر له شهوة الطبية فقط.
قال: وأما الطيب فإنه يزكي الفواد... وروى أحمد والترمذي من حديث أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أربع من سنن المرسلين: التعطر، والحياء، والنكاح، والسواك ". وقال الشيخ تقي الدين السبكي: السر في إباحة النكاح أكثر من أربع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى أراد نقل بواطن الشريعة وظواهرها، وما يستحيا من ذكره، وما لا يستحيا منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء، فجعل الله تعالى له نسوة، ينقلن من الشرع ما يرينه من أفعاله، ويسمعنه من أقواله، التي قد يستحي من الإفصاح بها بحضرة الرجال، ليكتمل نقل الشريعة، وكثر عدد النساء ليكثر الناقلون لهذا النوع، ومنهن عرف مسائل الغسل، والحيض، والعدة، ونحوها.
قال: ولم يكن ذلك لشهوة منه في النكاح، ولا كان يحب الوطء للذة البشرية، معاذ الله، وإنما حبب إليه النساء لنقلهن عنه ما يستحي هو من الإمعان في التلفظ به، فأحبهن لما فيه من الإعانة على نقل الشريعة في هذه الأبواب.
وأيضا فقد نقلن ما لم ينقله غيرهن مما رأينه في منامه، وحال خلوته، من الآيات البينات على نبوته، ومن جده، واجتهاده في العبادة، ومن أمور يشهد كل ذي لب أنها لا تكون إلا لنبي، وما كان يشاهدها غيرهن، فحصل بذلك خير عظيم.
وقال الموفق عبد اللطيف البغدادي: لما كانت الصلاة جامعة لفضائل الدنيا والآخرة، خصها بزيادة صفة، وقدم الطيب لإصلاحه النفس، وثنى بالنساء لإماطة أذى النفس بهن، وثلث بالصلاة لأنها تحصل حينئذ صافية عن الشوائب، خالصة من الشواغل. (سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي): ٧ / ٧٢ - ٧٣.
وقال الإمام السندي: قوله صلى الله عليه وسلم: " حبب إلي من الدنيا النساء "، قيل: إنما حبب إليه النساء لينقلن عنه ما لا يطلع عليه الرجال من أحواله، ويستحيا من ذكره.
وقيل: حبب إليه زيادة في الابتلاء في حقه، حتى لا يلهو بما حبب إليه من النساء عما كلف به من أداء الرسالة، فيكون أكثر لمشاقه، وأعظم لأجره، وقيل غير ذلك.
وأما الطيب، فكأنه يحبه لكونه يناجي الملائكة، وهم يحبون الطيب، وأيضا هذه المحبة تنشأ من اعتدال المزاج، وكمال الخلقة، وهو صلى الله عليه وسلم أشد اعتدالا من حيث المزاج، وأكمل خلقة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: " قرة عيني في الصلاة "، إشارة إلى أن تلك المحبة، غير ما نفعله عن كمال المناجاة مع الرب تبارك وتعالى، بل هو مع تلك المحبة منقطع إليه تعالى، حتى أنه بمناجاته تقر عيناه، وليس له قريرة العين فيما سواه.
فمحبته الحقيقية ليست إلا لخالقه تبارك وتعالى، كما قال: صلى الله عليه وسلم: " لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر، وإن صاحبكم لخليل الرحمن " - أو كما قال - وفيه إشارة إلى أن محبة النساء والطيب إذا لم يكن مخلا لأداء حقوق العبودية، بل للانقطاع إليه تعالى، يكون من الكمال، وإلا يكون من النقصان، فليتأمل.
وعلى ما ذكر، فالمراد بالصلاة، هو ذات ركوع وسجود، ويحتمل أن المراد في صلاة الله تعالى علي، أو في أمر الله تعالى الخلق بالصلاة علي. والله تعالى أعلم. (المرجع السابق): 73 - 74.
(١٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 173 174 176 177 178 179 181 182 182 186 187 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 ذكر مجيء الملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برسالات ربه تعالى 3
2 ذكر الاختلاف في أول سورة من القرآن أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم 3
3 ذكر الاختلاف في شق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، متى كان وأين وقع؟ 32
4 ذكر مجيء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الصورة التي خلقه الله عليها 39
5 ذكر كيفية إلقاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 45
6 ذكر تعليم جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة 53
7 وأما إقامة جبريل عليه السلام أوقات الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمه فيها 60
8 ذكر الجهة التي كان صلى الله عليه وسلم يستقبلها في صلاته 81
9 ذكر من قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم من الملائكة 94
10 فصل في ذكر الفضائل التي خص الله تعالى بها نبيه ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم وشرفه بها على جميع الأنبياء 95
11 فأما أنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين 96
12 وأما مخاطبة الله له بالنبوة والرسالة، ومخاطبة من عداه من الأنبياء باسمه 105
13 وأما دفع الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما قرفه به المكذبون، ونهى الله تعالى العباد عن مخاطبته باسمه 108
14 وأما دفع الله تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرفه المكذبون له 111
15 وأما مغفرة ذنبه من غير ذكره تعالى له خطأ ولا زلة 112
16 وأما أخذ الله تعالى الميثاق على جميع الأنبياء أن يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصروه إن أدركوه 116
17 وأما عموم رسالته إلى الناس جميعا وفرض الإيمان به على الكافة، وأنه لا ينجو أحد من النار حتى يؤمن به صلى الله عليه وسلم 122
18 وأما فرض طاعته، فإذا وجب الإيمان به وتصديقه بما جاء به وجبت طاعته لأن ذلك مما أتى به 132
19 وأما وجوب اتباعه وامتثال سنته والاقتداء بهديه صلى الله عليه وسلم 145
20 وأما أمر الكافة بالتأسي به قولا وفعلا 154
21 وأما اقتران اسم النبي صلى الله عليه وسلم باسم الله تعالى 167
22 وأما تقدم نبوته صلى الله عليه وسلم قبل تمام خلق آدم عليه السلام 169
23 ذكر التنويه بذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من زمن آدم عليه السلام 187
24 وأما شرف أصله، وتكريم حسبه، وطيب مولده صلى الله عليه وسلم 204
25 وأما أن أسماءه خير الأسماء 216
26 وأما قسم الله تعالى بحياته صلى الله عليه وسلم 221
27 وأما تفرده بالسيادة يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل وأن آدم ومن دونه تحت لوائه صلى الله عليه وسلم 224
28 فصل في ذكر المفاضلة بين المصطفى وبين إبراهيم الخليل صلوات الله عليهما وسلامه 241
29 وأما اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر 263
30 ذكر المقام المحمود الذي وعد الله تعالى به الرسول صلى الله عليه وسلم 288
31 تنبيه وإرشاد 292
32 إيضاح وتبيان 295
33 وأما حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الكوثر 297
34 وأما كثرة أتباعه صلى الله عليه وسلم 309
35 وأما الخمس التي أعطيها صلى الله عليه وسلم 311
36 وأما أنه بعث بجوامع الكلم وأوتي مفاتيح خزان الأرض 315
37 وأما تأييده بقتال الملائكة معه 319
38 وأما أنه خاتم الأنبياء 334
39 وأما أن أمته خير الأمم 338
40 وأما ذكره صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء وصحفهم وإخبار العلماء بظهوره حتى كانت الأمم تنتظر بعثته صلى الله عليه وسلم 345
41 ثم جاءني محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم 378
42 وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم 379
43 ومن إعلامه في التوراة 385
44 ومن إعلامه في التوراة أيضا 386
45 ومن ذكر شعيا له 387
46 ومن ذكر شعيا له 388
47 وفي حكاية يوحنا عن المسيح 390
48 وفي إنجيل متى 391
49 وذكر شعيا طريق مكة فقال: 394
50 وأما سماع الأخبار بنبوته من الجن وأجواف الأصنام ومن الكهان 396