إمتاع الأسماع - المقريزي - ج ٣ - الصفحة ٦٠
وأما إقامة جبريل عليه السلام أوقات الصلاة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمه فيها فخرج البخاري ومسلم من حديث مالك عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوما فدخل عليه عروة بن الزبير فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما وهو في [الكوفة] (1) فدخل عليه أبو مسعود الأنصاري فقال: ما هذا يا مغيرة؟! أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، ثم قال بهذا أمرت، فقال عمر (3) لعروة: انظر ما تحدثت به يا عروة، أو أن جبريل هو الذي أقام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة؟ فقال عروة: كذلك كان بشير بن أبي مسعود يحدث عن أبيه، قال (4) عروة: ولقد حدثتني عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر (5).
وأخرجاه والنسائي من حديث الليث بن سعد عن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة شيئا، فقال له عروة: أما أن جبريل قد نزل فصلى أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: اعلم ما تقول يا عروة، فقال: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبا سلمة مسعود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
نزل جبريل فأمني فصليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ثم صليت معه، ويحسب بأصابعه خمس صلوات.

(١) كذا في (خ)، وفي صحيح البخاري: بدونها، وفي رواية: " وهو بالعراق ".
(٢) كذا في (خ)، وفي صحيح البخاري: " ثم صلى فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم " [خمس مرات].
(٣) يعني ابن عبد العزيز.
(٤) بداية حديث آخر في البخاري، على ما سيأتي شرحه..
(٥) فتح الباري ٢ / ٤ - ٨.
قوله: " أخر الصلاة يوما ": وللبخاري في بدء الخلق من طريق الليث عن ابن شهاب بيان الصلاة المذكور، ولفظه: " أخر العصر شيئا ". قال ابن عبد البر: ظاهر سياقه أنه فعل ذلك يوما ما، لا أن ذلك كان عادة له وإن كان أهل بيته معروفين بذلك، وكذا في نسخة الصغاني، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب: " أخر الصلاة مرة "، يعني العصر.
وللطبراني من طريق أبي بكر بن حزم، أن عروة حدث عمر بن عبد العزيز - وهو يومئذ أمير المدينة في زمان الوليد بن عبد الملك - وكان ذلك زمان يؤخرون فيه الصلاة، يعني بني أمية. قال ابن عبد البر: المراد أنه أخرها حتى خرج المستحب، لا أنه أخرها حتى غربت الشمس.
ويؤيده سياق رواية الليث المتقدمة. وأما ما رواه الطبراني من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أسامة بن زيد الليثي، عن ابن شهاب في هذا الحديث، قال: " دعا المؤذن لصلاة العصر فأمسي عمر بن عبد العزيز قبل أن يصليها "، فمحمول على أنه قارب المساء لا أنه دخل فيه، وقد رجع عمر بن عبد العزيز عن ذلك، فروى الأوزاعي عن عاصم بن رجاء بن حياة عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز - يعني في خلافته - كان يصلي الظهر في الساعة الثامنة والعصر في الساعة العاشرة حين تدخل.
قوله: " أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوما "، بين عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج عن ابن شهاب أن الصلاة المذكورة العصر أيضا، ولفظه: " أمسى المغيرة بن شعبة بصلاة العصر.
قوله: " وهو بالعراق "، في الموطأ، رواية القعنبي وغيره عن مالك " وهو بالكوفة "، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن القعنبي، والكوفة من جملة العراق، بالتعبير بها أخص من التعبير بالعراق، وكان المغيرة إذا ذاك أميرا عليها من قبل معاوية بن أبي سفيان.
قوله: " ما هذا "؟ الأكثر في الاستعمال في مخاطبة الحاضر: " ألست "، وفي مخاطبة الغائب:
" أليس ".
قوله: " قد علمت "، قال عياض: يدل ظاهره على علم المغيرة بذلك، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل الظن من أبي مسعود لعلمه بصحبة المغيرة. قلت: ويؤيد الأول رواية شعيب عن ابن شهاب عند المصنف في غزوة بدر بلفظ " فقال لقد علمت " بغير أداة استفهام، ونحوه لعبد الرزاق عن معمر وابن جريج جميعا.
قوله: " إن جبريل نزل "، بين ابن إسحاق في المغازي، أن ذلك كان صبيحة الليلة التي فرضت فيها الصلاة، وهي ليلة الإسراء، قال ابن إسحاق: " حدثني عتبة بن مسلم عن نافع بن جبير "، وقال عبد الرزاق: " عن ابن جريج قال: قال نافع بن جبير وغيره: لما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم من الليلة التي أسري به لم يرعه إلا جبريل نزل حين زاغت الشمس، ولذلك سميت " الأولى " أي صلاة الظهر، فأمر فصيح بأصحابه: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصلى به جبريل، وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالناس "، فذكر الحديث، وفيه رد على من زعم أن بيان الأوقات إنما وقع بعد الهجرة، والحق أن ذلك وقع قبلها ببيان جبريل، وبعدها ببيان النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: " نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "، قال عياض: ظاهره أن صلاته كانت بعد فراغ صلاة جبريل، لكن المنصوص في غيره أن جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم، فيحمل قوله: " صلى فصلى "، على أن جبريل كان كلما فعل جزءا من الصلاة تابعه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله. وبهذا جزم النووي.
وقال غيره: الفاء بمعنى الواو، واعترض بأنه يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بفعله. وبهذا جزم النووي.
وقال غيره: الفاء بمعنى الواو، واعترض بأنه يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يتقدم في بعض الأركان على جبريل، على ما يقتضيه مطلق الجمع، وأجيب بمراعاة الحيثية وهي التبين، فكان لأجل ذلك يتراخى عنه، وقيل: الفاء للسببية كقوله تعالى: (فوكزه موسى فقضى عليه). وفي رواية الليث عند المصنف وغيره: " نزل جبريل فأمني فصليت معه "، وفي رواية عبد الرزاق عن معمر: " نزل فصلى، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الناس معه "، وهذا يؤيد رواية نافع بن جبير المتقدمة، وإنما دعاهم إلى الصلاة بقوله: " الصلاة جامعة "، لأن الأذان لم يكن شرع حينئذ.
واستدل بها الحديث على جواز الائتمام بمن يأتم بغيره، ويجاب عنه بما يجاب به عن قصة أبي بكر في صلاته خلف النبي صلى الله عليه وسلم وصلاة الناس خلفه، فإنه محمول على أنه كان مبلغا فقط، كما سيأتي تقريره في أبواب الإمامة.
واستدلوا به أيضا على جواز صلاة المفترض خلف المتنفل من جهة أن الملائكة ليسوا مكلفين بمثل ما كلف به الإنس، قاله ابن العربي وغيره.
وأجاب عياض باحتمال أن لا تكون تلك الصلاة كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ، وتعقبه بما تقدم من أنها كانت صبيحة ليلة فرض الصلاة، وأجاب باحتمال أن الوجوب عليه كان معلقا بالبيان، فلن يتحقق الوجوب إلا بعد تلك الصلاة قال: وأيضا لا نسلم أن جبريل كان متنفلا بل كانت تلك الصلاة - واجبة علي لأنه مكلف بتبليغها، فهي صلاة مفترض بفرض خلف مفترض بفرض آخر.
قوله: " بهذا أمرت "، بفتح المثناة على المشهور، والمعنى هذا الذي أمرت به أن تصليه كل يوم وليلة، وروي بالضم، أي هذا الذي أمرت بتبليغه لك.
قوله: " كذلك كان بشير "، هو بفتح الموحدة، بعدها معجمة بوزن فعيل، وهو تابعي جليل، ذكر في الصحابة لكونه ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ورآه. قال ابن عبد البر: هذا السياق منقطع عند جماعة من العلماء، لأن ابن شهاب لم يقل: حضرت مراجعة عروة لعمر، وعروة لم يقل: حدثني بشير، لكن الاعتبار عند الجمهور بهذا بثبوت اللقاء والمجالسة، لا بالصيغ.
وقال الكرماني: إعلم أن الحديث بهذا الطريق ليس متصل الإسناد، إذ لم يقل أبو مسعود:
" شاهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ولا قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ". قلت: هذا لا يسمى منقطعا اصطلاحا، وإنما هو مرسل صحابي لأنه لم يدرك القصة، فاحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، أو بلغه عنه بتبليغ من شاهده أو سمعه كصحابي آخر. على أن رواية الليث عند المصنف تزيل الإشكال كله، ولفظه: " فقال عروة: سمعت بشير بن أبي مسعود يقول: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "، فذكر الحديث.
وكذا سياق ابن شهاب، وليس فيه التصريح بسماعه له من عروة، وابن شهاب قد جرب عليه التدليس، لكن وقع في رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شهاب قال: " كنا مع عمر بن عبد العزيز "، فذكره. وفي رواية شعيب عن الزهري: " سمعت عروة يحدث عمر بن عبد العزيز "، الحديث.
قال القرطبي: قول عروة إن جبريل نزل ليس فيه حجة واضحة على عمر بن عبد العزيز إذ لم يعين له الأوقات. قال: وغاية ما يتوهم عليه أن نبهه وذكره بما كان يعرفه من تفاصيل الأوقات.
قال: وفيه بعد، لإنكار عمر على عروة حيث قال له: " اعلم ما تحدث يا عروة ". قال: وظاهر هذا الإنكار أنه لم يكن عنده علم من إمامة جبريل. قال الحافظ ابن حجر: لا يلزم من كونه لم يكن عنده علم منها أن لا يكون عنده علم بتفاصيل الأوقات المذكورة من جهة العمل المستمر، لكن لم يكن يعرف أن أصله لم يكن بتبيين جبريل بالفعل، فلهذا استثبت فيه، وكأنه كان يرى أن لا
(٦٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 55 56 57 58 59 60 60 65 66 67 68 ... » »»
الفهرست