ما قال: كنت إنسانا، ولا كنت موجودا، وليست النبوة إلا بالشرع المقرر من عند الله، فأخبر أنه صاحب النبوة قبل وجود الأنبياء في الدنيا كما تقرر فيما تقدم، فكانت استدارته إليها دورته بالاسم الباطن، وابتداء دورة أخرى بالاسم الظاهر، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض " (1)،
(١) ذكره البخاري في مواضع متفرقة من صحيحة يتمم بعضها بعضا، لكن أخرجه مسلم بتمامه في كتاب القسامة باب (٩) تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (٢٩): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ويحيى بن حبيب الحارثي " وتقاربا في اللفظ " قالا: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن ابن أبي بكرة، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات الأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر، الذي بين جمادي وشعبان، ثم قال: " أي شهر هذا؟ قلنا:
الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة، قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال:
أليس البلدة؟ قلنا: بلى، قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، قال فإن دماءكم وأموالكم قال محمد: وأحسبه قال: وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعن بعدي كفارا - أو ضلالا - يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه، ثم قال: ألا هل بلغت "؟ قال ابن حبيب في روايته: " ورجب مضر " وفي رواية أبي بكر: " فلا ترجعوا بعدي ".
قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم الله خلق السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر، الذي بين جمادي وشعبان "، أما ذو القعدة بالفتح القاف، وذو الحجة بكسر الحاء، هذه اللغة المشهورة، ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء، وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدها، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأهل الأدب، يقال: المحرم ورجبوذو القعدةوذو الحجة، ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة والبصرة، وجماهير العلماء، هي ذو القعدةوذو الحجة والمحرم ورجب، ثلاث سرد، وواحد فرد، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة، منها هذا الحديث الذي نحن فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " ورجب شهر مضر الذي بين جمادي وشعبان "، وإنما قيده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه، وإزالة للبس عنه، قالوا: وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجبا هذا الشهر المعروف الآن، وهو الذي بين جمادي وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر.
وقيل، لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وقيل: إن العرب كانت تسمى رجبا وشعبان الرجبين، وقيل كانت تسمى جمادي ورجب جمادين، وتسمى شعبان رجبا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات الأرض "، فقال العلماء:
معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده، وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة، حتى اختلط عليهم الأمر، وصادفت حجةالنبي صلى الله عليه وسلم تحريمهم، وقد تطابق الشرع، وكانوا في تلك السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب الذي ذكرناه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة قد صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السماوات والأرض.
وقال أبو عبيد: كانوا ينسؤن أي يؤخرون، وهو الذي قال الله تعالى فيه: (إنما النسئ زيادة في الكفر)، فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم، فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفر في سنة أخرى، فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه.
قوله: " ثم قال: أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم.. إلى آخره "، هذا السؤال، والسكوت، والتفسير أراد به التفخيم، والتقرير، والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر، والبلد، واليوم، وقولهم: " الله ورسوله أعلم "، هذا من حسن أدبهم، وأنهم علموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون.
قوله صلى الله عليه وسلم: " فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا ". المراد بهذا كله بيان توكيد غليظ تحريم الأموال والدماء، والأعراض، والتحذير من ذلك.
قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "، قيل في معناه سبعة أقوال:
[١] أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق.
[٢] المراد كفر النعمة، وحق الإسلام.
[٣] أنه يقرب من الكفر، ويؤدي إليه.
[٤] أنه فعل كفعل الكفار.
[٥] المراد حقيقة الكفر، ومعناه: لا تكفروا، ودوموا مسلمين.
[٦] حكاه الخطابي وغيره، أن المراد بالكفار: المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الأزهري في كتاب (تهذيب اللغة): يقال للابس السلاح كافر.
[٧] قال القاضي عياض رحمه الله: ثم إن الرواية " يضرب " برفع الباء، هكذا هو ونقل القاضي رحمه الله، أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء. قال القاضي: وهو إحالة للمعنى، والصواب الضم، قال الإمام النووي: وكذا قال أبو البقاء العكبري: إنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر، أي إن ترجعوا يضرب، والله تعالى أعلم.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: " لا ترجعوا بعدي كفارا "، فقال القاضي: قال الصبري: معناه بعد الفراق من موقفي هذا، وكان هذا يوم النحر بمنى في حجة الوداع، أو يكون بعدي أي خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به، أو يكون تحقق صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يكون في حياته، فنهاهم عنه بعد مماته.
قوله صلى الله عليه وسلم: " ليبلغ الشاهد منكم الغائب "، فيه وجوب تبليغ العلم، وهو فرض كفاية، فيجب تبليغه بحيث ينتشر.
قوله صلى الله عليه وسلم: " فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه "، احتج به العلماء لجواز رواية الفضلاء وغيرهم من الشيوخ الذين لا علم لهم عندهم ولا فقه، إذا ضبط ما يحدث به. (مسلم بشرح النووي): ٢ / ٤١٥ - ٤١٦، كتاب الإيمان، باب (29) بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "، حديث رقم (118)، (المرجع السابق): 11 / 180، كتاب القسامة، باب (9). تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (29).