استطعت أن تبعث إلى الحسين على لساني تأمره بالرجوع فافعل (1)، فبعث محمد بن الأشعث إلى الحسين يأمره بالرجوع فلم يصدق الرسول في ذلك، وقال: كل ما حم الاله واقع. قالوا: ولما انتهى مسلم بن عقيل إلى باب القصر إذا على بابه جماعة من الامراء من أبناء الصحابة ممن يعرفهم ويعرفونه، ينتظرون أن يؤذن لهم على ابن زياد، ومسلم مخضب بالدماء في وجهه وثيابه، وهو مثخن بالجراح، وهو في غاية العطش، وإذا قلة من ماء بارد هنالك فأراد أن يتناولها ليشرب منها فقال له رجل (2) من أولئك: والله لا تشرب منها حتى تشرب من الحميم، فقال له: ويلك يا ابن ناهلة، أنت أولى بالحميم والخلود في نار الجحيم مني، ثم جلس فتساند إلى الحائط من التعب والكلال والعطش، فبعث عمارة بن عقبة بن أبي معيط (3) مولى له إلى داره فجاء بقلة عليها منديل ومعه قدح، فجعل يفرغ له في القدح ويعطيه فيشرب فلا يستطيع أن يسيغه من كثرة الدماء التي تعلو على الماء مرتين أو ثلاثا، فلما شرب سقطت ثناياه مع الماء فقال: الحمد لله لقد كان بقي لي من الرزق المقسوم شربة ماء، ثم أدخل على ابن زياد، فلما وقف بين يديه لم يسلم عليه، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير؟! فقال: لا! إن كان يريد قتلي فلا حاجة لي بالسلام عليه، وإن لم يرد قتلي فسأسلم عليه كثيرا، فأقبل ابن زياد عليه فقال: إيه يا بن عقيل، أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتتهم وتفرق كلمتهم وتحمل بعضهم على قتل بعض؟ قال: كلا لست لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب. قال: وما أنت وذاك يا فاسق؟ لم لا كنت تعمل بذلك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر؟. فقال: أنا أشرب الخمر؟!
والله إن الله ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأنت أحق بذلك مني، فإني لست كما ذكرت، وإن أولى بها مني من يلغ في دماء المسلمين ولغا، ويقتل النفس التي حرم الله بغير نفس، ويقتل على الغضب والظن، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا. فقال له ابن زياد:
يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونك ودونه، ولم يرك أهله، قال: فمن أهله يا بن زياد؟
قال: أمير المؤمنين يزيد. قال: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم. قال:
كأنك تظن أن لكم في الامر شيئا؟ قال: لا والله ما هو بالظن ولكنه اليقين. قال له: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الاسلام من الناس. قال: أما إنك أحق من أحدث في الاسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة المكتسبة عن كتابكم وجهالكم. وأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم حسينا وعليا، ومسلم ساكت لا يكلمه رواه ابن جرير