الخضراء، وقيل بمقابر باب الصغير، وعليه الجمهور فالله أعلم. وكان عمره إذ ذاك ثمانيا وسبعين سنة، وقيل جاوز الثمانين وهو الأشهر والله أعلم. ثم ركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية - وكان يزيد بحوارين - فلما وصلوا إلى ثنية العقاب تلقتهم أثقال يزيد، وإذا يزيد راكب على بختي وعليه الحزن ظاهر، فسلم عليه الناس بالامارة وعزوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا الضحاك بن قيس، فانتهى إلى باب توما، فظن الناس أنه يدخل منه إلى المدينة، فأجازه مع السور حتى انتهى إلى الباب الشرقي، فقيل: يدخل منه لأنه باب خالد، فجازه حتى أتى الباب الصغير فعرف الناس أنه قاصد قبر أبيه، فلما وصل إلى باب الصغير ترجل عند القبر ثم دخل فصلى على أبيه بعدما دفن (1) ثم انفتل، فلما خرج من المقبرة أتى بمراكب الخلافة فركب.
ثم دخل البلد وأمر فنودي في الناس إن الصلاة جامعة، ودخل الخضراء فاغتسل ولبس ثيابا حسنة ثم خرج فخطب الناس أول خطبة خطبها وهو أمير المؤمنين، فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أيها الناس! إن معاوية كان عبدا من عبيد الله، أنعم الله عليه ثم قبضه إليه، وهو خير ممن بعده ودون من قبله، ولا أزكيه على الله عز وجل فإنه أعلم به، إن عفى عنه فبرحمته، وإن عاقبه فبذنبه، وقد وليت الامر من بعده، ولست آسى على طلب، ولا أعتذر من تفريط (2)، وإذا أراد الله شيئا كان. وقال لهم في خطبته هذه: وإن معاوية كان يغزيكم في البحر، وإني لست حاملا أحدا من المسلمين في البحر، وإن معاوية كان يشتيكم بأرض الروم ولست مشتيا أحدا بأرض الروم، وإن معاوية كان يخرج لكم العطاء أثلاثا وأنا أجمعه لكم كله. قال: فافترق الناس عنه وهم لا يفضلون عليه أحدا. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول:
بعث معاوية وهو مريض إلى ابنه يزيد، فلما جاءه البريد ركب وهو يقول:
جاء البريد بقرطاس يخب (3) به * فأوجس القلب من قرطاسه فزعا قلنا لك الويل ماذا في صحيفتكم (4) * قال الخليفة أمسى مثقلا وجعا (5) فمادت الأرض أو كادت تميد بنا * كأن أغبر من أركانها انقلعا (6)