وإن سلمنا امتناع ذلك، فما المانع من العمل بإحداهما على طريق التخيير بأن يعمل المكلف بما شاء منهما، إن شاء أثبت، وإن شاء نفي.
قولهم: إن الأمة مجمعة على امتناع تخيير المكلف في مسائل الاجتهاد.
قلنا: متى إذا ترجح في نظره إحدى الامارتين، أو إذا تعادلتا؟
الأول مسلم، والثاني ممنوع، ولا بعد في التخيير عند التعارض مع التساوي، نازلا منزلة ورود التخيير من الشارع بلفظ التخيير، كما في خصال الكفارة، أو كما في التخيير بين إخراج الحقاق، وبنات اللبون، عندما إذا اجتمع في ماله مائتان من الإبل بقوله عليه السلام في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حق فإنه إن أخرج أربع حقاق، فقد عمل بالنص، وإن أخرج خمس بنات لبون، فقد عمل بالنص.
قولهم: إن التخيير إباحة للفعل والترك، وهو عمل بأمارة الإباحة، وترك للامارة الوجوب - قلنا: إنما يلزم ذلك أن لو كان التخيير بين الفعل والترك مطلقا، وليس كذلك.
وإنما هو تخيير في العمل بأحد الحكمين، مشروطا بقصد العمل بدليله، كما في التخيير بين القصر في السفر والاتمام، بشرط قصد العمل بدليل الرخصة، أو دليل الاتمام.
قولهم إنه يلزم منه جواز تخيير الحاكم للخصمين، والمفتي للعامي، بين الحكمين المتناقضين، ليس كذلك، بل التخيير إنما هو للحاكم والمفتي في العمل بإحدى الامارتين عند الحكم والفتوى، فلا بد من تعين ما اختاره، دفعا للنزاع بين الخصوم، وللتحير عن المستفتى.
وأما حكمه لزيد بحكم ولعمرو بنقيضه، فغير ممتنع، كما لو تغير اجتهاده.
وكذلك الحكم في يوم وبنقيضه في الغد، وإنما يمتنع ذلك أن لو كان المحكوم عليه واحدا، لما فيه من إضرار المحكوم عليه بالحكم له بحل النكاح و الانتفاع بالملك في وقت، وتحريمه عليه في وقت آخر. وإن سلمنا امتناع التخيير، فما المانع من ترك العمل بهما، والقول بتساقطهما.
قولهم إنه يلزم منه الجمع بين النقيضين. إنما يلزم ذلك أن لو اعتقد نفي الحل والإباحة. وأما إذا لم يعتقد شيئا من ذلك، فلا.