«أم يقولون به جنة» انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأتقنهم رأيا وأوفرهم رزانة ولقد روعي في هذه التوبيخات الأربعة التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به صلى الله عليه وسلم الترقي من الأدنى إلى الأعلى حيث وبخوا أو لا بعدم التدبر وذلك يتحقق مع كون القول غير متعرض له بوجه من الوجوه ثم وبخوا بشيء لو اتصف به القول لكان سببا لعدم تصديقهم به ثم وبخوا بما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم من عدم معرفتهم به صلى الله عليه وسلم وذلك يتحقق بعدم المعرفة بخير ولا شر ثم بما لو كان فيه صلى الله عليه وسلم ذلك لقدح في رسالته صلى الله عليه وسلم ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بل جاءهم صلى الله عليه ولم بالحق أي الصدق الثابت الذي لا محيد عنه أصلا ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه «وأكثرهم للحق» من حيث هو حق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبيء عنه الإظهار في موقع الإضمار «كارهون» لما في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج وزاغوا عن الطريق الأنهج وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة الباقين لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق المبين فنأمل وقيل تقييد الحكم بالأكثر لأن منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم تفكره لا لكراهته الحق وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق مع اتفاق الكل على الكفر به مما لا يساعده المقام أصلا «ولو اتبع الحق أهواءهم» استئناف مسوق لبيان أن أهواءهم الزائغة التي ما كرهوا الحق إلا لعدم موافقته إياها مقتضية للطامة أي لو كان ما كرهوه من الحق الذي من جملته ما جاء به صلى الله عليه وسلم موافقا لأهوائهم الباطلة «لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن» وخرجت عن الصلاح والانتظام بالكلية لأن مناط النظام ليس إلا ذلك وفيه من تنويه شأن الحق والتنبيه على سمو مكانه ما لا يخفى وأما ما قيل لو أتبع الحق الذي جاء به صلى الله عليه وسلم أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله تعالى بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر ففيه أنه لا يلائم فرض مجيئه صلى الله عليه وسلم به وكذا ما قيل لو كان في الواقع إلهان لا يناسب المقام وأما ما قيل لو أتبع الحق أهواءهم لخرج عن الإلهية فمالا احتمال له أصلا «بل أتيناهم بذكرهم» انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق الذي به يقوم العالم إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال «فهم» بما فعلوه من النكوص «عن ذكرهم» أي فخرهم وشرفهم خاصة «معرضون» لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به وفي وضع للظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم
(١٤٤)