تفسير أبي السعود - أبي السعود - ج ١ - الصفحة ٤٨
مسلكه نكبوا إلى شعاب التأويل فأجابوا أولا بأنهم لما اصروا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافه فتزايد الرين في قلوبهم فسمى ذلك مددا في الطغيان فأسند إيلاؤه إليه تعالى ففي السند مجاز لغوي وفي الاسناد مجاز عقلي لأنه إسناد للفعل إلى المسبب له وفاعله الحقيقي هم الكفرة وثانيا بأنه أريد بالمد في الطغيان ترك القسر والإلحاد إلى الإيمان كما في قوله تعالى «ونذرهم في طغيانهم يعمهون» فالمجاز في المسند فقط وثالثا بأن المراد معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان لكنه أسند إليه سبحانه مجازا لأنه بتمكينه تعالى وإقداره أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز بحيث صاروا كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى «الذين اشتروا الضلالة بالهدى» والجملة مسوقة لتقرير ما قبلها وبيان لكمال جهالتهم فيما حكى عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غاية سماجتها وتصويرها بصورة مالا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز فضلا عن العقلاء والضلالة الجور عن القصد والهدى التوجه إليه وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين والثاني للاستقامة عليه والاشتراء استبدال السلعة بالثمن أي أخذها به لا بذله لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزما له فإن المعتبر في عقد الشراء ومفهومه هو الجلب دون السلب الذي هو المعتبر في عقد البيع ثم استعير لأخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى لا للإعراض عما في يده محصلا به غيره كما قيل وإن استلزمه لما مر سره ومنه قوله * أخذت بالجمة رأسا أزعرا * وبالثنايا الواضحات الدردرا * وبالطويل العمر عمرا جيدرا * كما اشترى المسلم إذ تنصرا * فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلا منه أخذا منوطا بالرغبة فيها والإعراض عنه ولما اقتضى ذلك ان يكون ما يجري مجرى الثمن حاصلا للكفرة قبل العقد وما يجري مجرى المبيع غير حاصل لهم إذ ذاك حسبما هو في البيت ولا ريب في أنهم بمعزل من الهدى مستمرون على الضلالة استدعى الحال تحقيق ما جرى مجرى العوضين فنقول وبالله التوفيق ليس المراد بما تعلق به الاشتراء ههنا جنس الضلالة الشاملة لجميع أصناف الكفرة حتى تكون حاصلة لهم من قبل بل هو فردها الكامل الخاص بهؤلاء على أن اللام للعهد وهو عمههم المقرون بالمد في الطغيان المترتب على ما حكى عنهم من القبائح وذلك إنما يحصل لهم عند اليأس من اهتدائهم والختم على قلوبهم وكذا ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب ونأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في ان هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلة لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سمعوه من نصائح المؤمنين التي من جملتها ما حكى من النهي عن الإفساد في الأرض والأمر بالإيمان الصحيح وقد نبذوها وراء ظهورهم وأخذوا بدلها الضلالة الهائلة التي هي العمة في تيه الطغيان وحمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة
(٤٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مقدمة قاضي القضاة أبو السعود 3
2 (الجزء الأول) 1 - سورة الفاتحة 7
3 2 - سورة البقرة 20
4 تفسير قوله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها 71
5 أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم 97
6 وإذا استسقى موسى لقومه 105
7 أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون 116
8 ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون 130
9 ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير 142
10 وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن 154
11 (الجزء الثاني) سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها 170
12 إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما 181
13 ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر 192
14 يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها 203
15 واذكروا الله في أيام معدودات 210
16 يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما 218
17 والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة 230
18 ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت 237
19 (الجزء الثالث) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض 245
20 قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حميد 258
21 ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء 264
22 وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة 271