مسلكه نكبوا إلى شعاب التأويل فأجابوا أولا بأنهم لما اصروا على كفرهم خذلهم الله تعالى ومنعهم ألطافه فتزايد الرين في قلوبهم فسمى ذلك مددا في الطغيان فأسند إيلاؤه إليه تعالى ففي السند مجاز لغوي وفي الاسناد مجاز عقلي لأنه إسناد للفعل إلى المسبب له وفاعله الحقيقي هم الكفرة وثانيا بأنه أريد بالمد في الطغيان ترك القسر والإلحاد إلى الإيمان كما في قوله تعالى «ونذرهم في طغيانهم يعمهون» فالمجاز في المسند فقط وثالثا بأن المراد معناه الحقيقي وهو فعل الشيطان لكنه أسند إليه سبحانه مجازا لأنه بتمكينه تعالى وإقداره أولئك إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات الشنيعة المميزة لهم عمن عداهم أكمل تمييز بحيث صاروا كأنهم حضار مشاهدون على ما هم عليه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر وسوء الحال ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى «الذين اشتروا الضلالة بالهدى» والجملة مسوقة لتقرير ما قبلها وبيان لكمال جهالتهم فيما حكى عنهم من الأقوال والأفعال بإظهار غاية سماجتها وتصويرها بصورة مالا يكاد يتعاطاه من له أدنى تمييز فضلا عن العقلاء والضلالة الجور عن القصد والهدى التوجه إليه وقد استعير الأول للعدول عن الصواب في الدين والثاني للاستقامة عليه والاشتراء استبدال السلعة بالثمن أي أخذها به لا بذله لتحصيلها كما قيل وإن كان مستلزما له فإن المعتبر في عقد الشراء ومفهومه هو الجلب دون السلب الذي هو المعتبر في عقد البيع ثم استعير لأخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى لا للإعراض عما في يده محصلا به غيره كما قيل وإن استلزمه لما مر سره ومنه قوله * أخذت بالجمة رأسا أزعرا * وبالثنايا الواضحات الدردرا * وبالطويل العمر عمرا جيدرا * كما اشترى المسلم إذ تنصرا * فاشتراء الضلالة بالهدى مستعار لأخذها بدلا منه أخذا منوطا بالرغبة فيها والإعراض عنه ولما اقتضى ذلك ان يكون ما يجري مجرى الثمن حاصلا للكفرة قبل العقد وما يجري مجرى المبيع غير حاصل لهم إذ ذاك حسبما هو في البيت ولا ريب في أنهم بمعزل من الهدى مستمرون على الضلالة استدعى الحال تحقيق ما جرى مجرى العوضين فنقول وبالله التوفيق ليس المراد بما تعلق به الاشتراء ههنا جنس الضلالة الشاملة لجميع أصناف الكفرة حتى تكون حاصلة لهم من قبل بل هو فردها الكامل الخاص بهؤلاء على أن اللام للعهد وهو عمههم المقرون بالمد في الطغيان المترتب على ما حكى عنهم من القبائح وذلك إنما يحصل لهم عند اليأس من اهتدائهم والختم على قلوبهم وكذا ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب ونأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى ولا مرية في ان هذه المرتبة من التمكن كانت حاصلة لهم بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وبما سمعوه من نصائح المؤمنين التي من جملتها ما حكى من النهي عن الإفساد في الأرض والأمر بالإيمان الصحيح وقد نبذوها وراء ظهورهم وأخذوا بدلها الضلالة الهائلة التي هي العمة في تيه الطغيان وحمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم على القلوب المختصة
(٤٨)