ليس فيه تكليفهم بما ليس في وسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلا إذ لاقطع لأحد منهم بدخوله في حكم النص قطعا وورود النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا إن كونهم كذلك لورود النص بذلك فلا جبر أصلا نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجه لطيف ستقف عليه عند قوله تعالى «وأنتم تعلمون» وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الامر بالاشعار بعليتها للعبادة «الذي خلقكم» صفة أجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل اثر التعليل وقد جوز كونها للتقييد والتوضيح بناء على تخصيص الخطاب بالمشركين وحمل الرب على ما هو أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أربابا والخلق ايجاد الشيء على تقدير واستواء واصله التقدير يقال خلق النعل أي قدرها وسواها بالمقياس وقرئ خلقكم بإدغام القاف في الكاف «والذين من قبلكم» عطف على الضمير المنصوب ومتمم لما قصد من التعظيم والتعليل فإن خلق أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف أي كانوا من زمان قبل زمانكم وقيل خلقهم من قبل خلقكم فحذف الخلق وأقيم الضمير مكانه والمراد بهم من تقدمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عموم الخطاب بيان شمول خلقه تعالى للكل وتخصيصه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرض لخلق من عاداهم من معاصريهم واخراج الجملة مخرج الصلة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول عندهم أيضا مع أنهم غير معترفين بغاية الخلق وان اعترفوا بنفسه كما ينطق به قوله تعالى «ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله» للإيذان بأن خلقهم التقوى من الظهور بحيث لا يتأتى لأحد إنكاره وقرئ وخلق من قبلكم وقرئ والذين من قبلكم بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته توكيدا كإقحام اللام بين المضافين في لا أبا لك أو بجعله موصوفا بالظرف خبرا لمبتدأ محذوف أي الذين هم أناس كائنون من قبلكم «لعلكم تتقون» المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول وأما محبوب فيسمى ترجيا أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك المعنى قد يعتبر تحققه بالفعل أما من جهة المتكلم كما في قولك لعل الله يرحمني وهو الأصل الشائع في الاستعمال لأن معاني الانشاءات قائمة به وأما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما كما في قوله سبحانه «فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى» وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع الفعل من توقع أصلا فإن روعيت في الآية الكريمة جهة المتكلم يستحيل إرادة ذلك المعنى لامتناع التوقع من علام الغيوب عز وجل فيصار أما إلى الاستعارة بأن يشبه طلبه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنة لها لتعاضد أسبابها برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول في كون متعلق كل منهما مترددا بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول فيستعار له كلمة لعل استعارة تبعية حرفية للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقرب المطلوب من الوقوع وأما إلى التمثيل بأن يلاحظ خلقه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبه إياها منه وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها وينتزع من ذلك هيئة فتشبه بهيئة منتزعة من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئا سهل المنال فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية فيكون هناك استعارة تمثيلية قد صرح من ألفاظها بما هو العمدة في انتزاع الهيئة المشبه بها أعني كلمة الترجي والباقي منوى بألفاظ متخيلة بها
(٥٩)