تفسير أبي السعود - أبي السعود - ج ١ - الصفحة ٥٩
ليس فيه تكليفهم بما ليس في وسعهم من الإيمان بعدم إيمانهم أصلا إذ لاقطع لأحد منهم بدخوله في حكم النص قطعا وورود النص بذلك لكونهم في أنفسهم بسوء اختيارهم كذلك لا إن كونهم كذلك لورود النص بذلك فلا جبر أصلا نعم لتخصيص الخطاب بالمشركين وجه لطيف ستقف عليه عند قوله تعالى «وأنتم تعلمون» وإيراده تعالى بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد موجب الامر بالاشعار بعليتها للعبادة «الذي خلقكم» صفة أجريت عليه سبحانه للتبجيل والتعليل اثر التعليل وقد جوز كونها للتقييد والتوضيح بناء على تخصيص الخطاب بالمشركين وحمل الرب على ما هو أعم من الرب الحقيقي والآلهة التي يسمونها أربابا والخلق ايجاد الشيء على تقدير واستواء واصله التقدير يقال خلق النعل أي قدرها وسواها بالمقياس وقرئ خلقكم بإدغام القاف في الكاف «والذين من قبلكم» عطف على الضمير المنصوب ومتمم لما قصد من التعظيم والتعليل فإن خلق أصولهم من موجبات العبادة كخلق أنفسهم ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف أي كانوا من زمان قبل زمانكم وقيل خلقهم من قبل خلقكم فحذف الخلق وأقيم الضمير مكانه والمراد بهم من تقدمهم من الأمم السالفة كافة ومن ضرورة عموم الخطاب بيان شمول خلقه تعالى للكل وتخصيصه بالمشركين يؤدي إلى عدم التعرض لخلق من عاداهم من معاصريهم واخراج الجملة مخرج الصلة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول عندهم أيضا مع أنهم غير معترفين بغاية الخلق وان اعترفوا بنفسه كما ينطق به قوله تعالى «ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله» للإيذان بأن خلقهم التقوى من الظهور بحيث لا يتأتى لأحد إنكاره وقرئ وخلق من قبلكم وقرئ والذين من قبلكم بإقحام الموصول الثاني بين الأول وصلته توكيدا كإقحام اللام بين المضافين في لا أبا لك أو بجعله موصوفا بالظرف خبرا لمبتدأ محذوف أي الذين هم أناس كائنون من قبلكم «لعلكم تتقون» المعنى الوضعي لكلمة لعل هو إنشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول وأما محبوب فيسمى ترجيا أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك المعنى قد يعتبر تحققه بالفعل أما من جهة المتكلم كما في قولك لعل الله يرحمني وهو الأصل الشائع في الاستعمال لأن معاني الانشاءات قائمة به وأما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما كما في قوله سبحانه «فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى» وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع الفعل من توقع أصلا فإن روعيت في الآية الكريمة جهة المتكلم يستحيل إرادة ذلك المعنى لامتناع التوقع من علام الغيوب عز وجل فيصار أما إلى الاستعارة بأن يشبه طلبه تعالى من عباده التقوى مع كونهم مئنة لها لتعاضد أسبابها برجاء الراجي من المرجو منه أمرا هين الحصول في كون متعلق كل منهما مترددا بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول فيستعار له كلمة لعل استعارة تبعية حرفية للمبالغة في الدلالة على قوة الطلب وقرب المطلوب من الوقوع وأما إلى التمثيل بأن يلاحظ خلقه تعالى إياهم مستعدين للتقوى وطلبه إياها منه وهم متمكنون منها جامعون لأسبابها وينتزع من ذلك هيئة فتشبه بهيئة منتزعة من الراجي ورجائه من المرجو منه شيئا سهل المنال فيستعمل في الهيئة الأولى ما حقه أن يستعمل في الثانية فيكون هناك استعارة تمثيلية قد صرح من ألفاظها بما هو العمدة في انتزاع الهيئة المشبه بها أعني كلمة الترجي والباقي منوى بألفاظ متخيلة بها
(٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مقدمة قاضي القضاة أبو السعود 3
2 (الجزء الأول) 1 - سورة الفاتحة 7
3 2 - سورة البقرة 20
4 تفسير قوله تعالى إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها 71
5 أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم 97
6 وإذا استسقى موسى لقومه 105
7 أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون 116
8 ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون 130
9 ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير 142
10 وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن 154
11 (الجزء الثاني) سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها 170
12 إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما 181
13 ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر 192
14 يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها 203
15 واذكروا الله في أيام معدودات 210
16 يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما 218
17 والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة 230
18 ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت 237
19 (الجزء الثالث) تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض 245
20 قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حميد 258
21 ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء 264
22 وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة 271