إنكارا عليهم وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال «أتستبدلون» أي أتأخذون لأنفسكم وتختارون «الذي هو أدنى» أي أقرب منزلة وأدون قدرا سهل المنال وهين الحصول لعدم كونه مرغوبا فيه وكونه تافها مرذولا قليل القيمة وأصل الدنو القرب في المكان فاستعير للخسة كما استعير البعد للشرف والرفعة فقيل بعيد المحل وبعيد الهمة وقرئ أدنأ من الدناءة وقد حملت المشهورة على أن ألفها مبدلة من الهمزة «بالذي هو خير» أي بمقابلة ما هو خير فإن الباء تصحب الذاهب الزائل دون دون الآتي الحاصل كما في التبديل في مثل قوله عز وجل «ومن يتبدل الكفر بالإيمان» وقوله «وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط» وليس فيه ما يدل قطعا على أنهم أرادوا زوال المن والسلوى بالمرة وحصول ما طلبوا مكانه كتحقيق الاستبدال فيما مر من صورة المناوبة «اهبطوا مصرا» أمروا به بيانا لدناءة مطلبهم أو إسعافا لمرامهم أي انحدروا إليه من التيه يقال هبط الوادي وقرئ بضم الباء والمصر البلد العظيم وأصله الحد بين الشيئين وقيل أريد به العلم وإنما صرف لسكون وسطه أو لتأويله بالبلد دون المدينة ويؤيده أنه في مصحف ابن مسعود رضي الله عنه غير منون وقيل أصله مصراييم فعرب «فإن لكم ما سألتم» تعليل للأمر بالهبوط أي فإن لكم فيه ما سألتموه ولعل التعبير عن الأشياء المسئولة بما للاستهجان بذكرها كأنه قيل فإنه كثير فيه مبتذل يناله كل أحد بغير مشقة «وضربت عليهم الذلة والمسكنة» أي جعلتا محيطتين بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه أو ألصقتا بهم وجعلتا ضربة لازب لا تنفكان عنهم مجازاة لهم على كفرانهم من ضرب الطين على الحائط بطريق الاستعارة بالكناية واليهود في غالب الامر أذلاء مساكين إما على الحقيقة وأما لخوف أن تضاعف جزيتهم «وباؤوا» أي رجعوا «بغضب» عظيم وقوله تعالى «من الله» متعلق بمحذوف هو صفة لغضب مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي بغضب كائن من الله تعالى أو صاروا أحقاء به من قولهم باء فلان بفلان أي صار حقيقا بأن يقتل بمقابلته ومنه قول من قال بؤ بشسع نعل كليب وأصل البوء المساواة «ذلك» إشارة إلى ما سلف من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم «بأنهم» بسبب إنهم «كانوا يكفرون» على الاستمرار «بآيات الله» الباهرة التي هي المعجزات الساطعة الظاهرة على يد موسى عليه السلام مما عدو ما لا يعد «ويقتلون النبيين بغير حق» كشعيا وزكريا ويحيى عليهم السلام وفائدة التقييد مع أن قتل الأنبياء يستحيل أن يكون بحق الإيذان بأن ذلك عندهم أيضا بغير الحق إذ لم يكن أحد معتقدا بحقية قتل أحد منهم عليهم السلام وانما حملهم على ذلك حب الدنيا واتباع الهوى والغلو في العصيان والاعتداء كما يفصح عنه قوله تعالى «ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون» أي جرهم العصيان والتمادي في العدوان إلى ما ذكر من الكفر وقتل الأنبياء عليهم السلام فإن صغار الذنوب إذا دووم عليها أدت إلى كبارها كما ان مداومة صغار الطاعات مؤدية إلى تحري كبارها وقيل كررت الإشارة للدلالة على أن ما لحقهم كما أنه بسبب الكفر والقتل فهو بسبب ارتكابهم المعاصي واعتدائهم حدود الله تعالى وقيل الإشارة إلى الكفر والقتل والباء بمعنى مع ويجوز الإشارة إلى المتعدد بالمفرد بتأويل ما ذكر أو تقدم كما في قول رؤبة بن العجاج * فيها خطوط من سواد وبلق * كأنه في الجلد توليع البهق * أي كان ما ذكر والذي حسن ذلك في المضمرات والمبهمات
(١٠٧)