الأول وأنما هذا حكم من لم يجد كاتبا قال الله عز وجل: " وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا - أي فلم يطالبه برهن - فليؤده الذي ائتمن أمانته ". قال: ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول لجاز أن يكون يقول عز وجل:
" وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط (1) " الآية ناسخا لقوله عز وجل:
" يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " الآية ولجاز أن يكون قوله عز وجل: " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " ناسخا لقوله عز وجل: " فتحرير رقبة مؤمنة " قال بعض العلماء:
إن قوله تعالى " فإن أمن بعضكم بعضا " لم يتبين تأخر نزوله عن صدر الآية المشتملة على الامر بالاشهاد، بل وردا معا. ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة. قال:
وقد روى عن ابن عباس أنه لما قيل له: إن آية الدين منسوخة قال: لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ قال: والاشهاد إنما جعل للطمأنينة، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا، منها الرهن، ومنها الاشهاد. ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الواجب. فيعلم من ذلك مثله في الاشهاد.
وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا وبرا وبحرا وسهلا وجبلا من غير إشهاد مع علم الناس بذلك من غير نكير، ولو وجب الاشهاد ما تركوا النكير على تاركه.
قلت: هذا كله استدلال حسن، وأحسن منه ما جاء من صريح السنة في ترك الاشهاد، وهو ما خرجه الدارقطني عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: " أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة (2) حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا. فبينا نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه، فقال: من أين [أقبل (3)] القوم؟ فقلنا: من الربذة وجنوب الربذة. قال: ومعنا جمل أحمر، فقال: تبيعوني جملكم هذا؟ فقلنا نعم. قال بكم؟ قلنا: بكذا وكذا صاعا من تمر. قال: فما استوضعنا شيئا وقال: قد أخذته، ثم أخذ برأس الجمل حتى