معدومة كان محالا، لان الاحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك، وإن كانت موجودة فوجودها يغنى عن إحداث أنفسها. وأيضا فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه، وكذلك النجارة والنسج، وذلك محال، وما أدى إلى المحال محال. ثم أن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الاخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض (1) " والخطاب للكفار، لقوله تعالى: " وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون "، وقال: " أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض (2) " يعني بالملكوت الآيات. وقال: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون (3) ". يقول: أو لم ينظروا في ذلك نظر تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلا للحوادث والتغييرات على أنها محدثات، وأن المحدث لا يستغنى عن صانع يصنعه، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الانسان أكمل منه وذلك محال. وقال تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (4) " يعني آدم عليه السلام، " ثم جعلناه " أي جعلنا نسله وذريته " نطفة في قرار مكين " إلى قوله: " تبعثون ". فالانسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة. كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما وعظما، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال، لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضوا من الأعضاء، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز. وقد يرى نفسه شابا ثم كهلا ثم شيخا وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه، وأن له صانعا صنعه وناقلا نقله من حال إلى حال، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر. وقال بعض الحكماء: إن كل شئ في العالم الكبير له نظير العالم الصغير، الذي هو بدن الانسان، ولذلك قال تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " وقال: " وفي أنفسكم أفلا
(٢٠٢)