والذي يدل على ما قلناه من أن العلم بما تقدم هو العقل دون الشرع، هو أن كل عاقل مفطور العقل يعلم قبح الظلم وقبح الجهل والكذب والعبث، فلو لا أن طريق ذلك العقل لما وجب شمول العلم لجميع العقلاء، ولكان يقف على من علم صحة السمع.
وفي علمنا باشتراك جميع العقلاء من موحد وملحد ومقر بالنبوات وجاحد لها في العلم بذلك دليل على أن طريق ذلك العقل.
وقولهم " إنهم علموا ذلك لمخالطتهم للعقلاء من أهل الشرع " باطل، لأنه لو كان كذلك لعلموا قبح كل ما علمه أهل الشرع من قبيح شرب الخمر والزنا وغير ذلك، وفي العلم بالفرق بينهما دليل على فساد ما قالوه.
ومتى قالوا: إن العقلاء لا يعلمون ذلك أو يعتقدونه اعتقادا ليس بعلم.
لزمهم أن يقولوا لا يعلمون المشاهدات أيضا، لأن في الناس من قال طريق ذلك السمع، ولزم عليه قول السوفسطائية وأصحاب العنود في نفيهم العلم بشئ من الأشياء ونسبتهم ذلك كله إلى الظن والحسبان، وذلك باطل بالاتفاق.
فأما الذي يدل على أنه تعالى قادر على القبيح، فهو ما ثبت من كونه خالقا لكمال العقل والعلم بالمشاهدات، ومن شأن القادر على الشئ أن يكون قادرا على جنس ضده، فيجب أن يكون قادرا على ضد هذه العلوم من الجهل، والجهل قبيح.
وأيضا فالقبيح من جنس الحسن، بدلالة أن قعود الإنسان في دار غيره غصبا من جنس قعوده فيها بإذن مالكها، وأحدهما قبيح والآخر حسن.
والقديم تعالى قادر على الأجناس كلها، ومن كل جنس على ما لا نهاية له، لأنه قادر لنفسه على ما مضى، ولا اختصاص له بقدر دون قدر ولا بجنس دون جنس.