فأدركته العصمة الإلهية وقطعت عليه الكلام، وفسر الله سبحانه له معنى قوله في الوعد: " وأهلك " أن المراد به الاهل الصالحون وليس الابن بصالح، وقد قال تعالى من قبل: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " وقد أخذ نوح عليه السلام بظاهر الاهل وأن المستثنى منهم هو امرأته الكافرة فقط، ثم فرع عليه النهى عن السؤال فيما ليس له به علم، وهو سؤال نجاة ابنه على ما كان يلوح إليه كلامه أنه سيسألها.
فانقطع عنه السؤال بهذا التأديب الإلهي، واستأنف عليه السلام بكلام آخر صورته صورة التوبة وحقيقته الشكر لما أنعم الله بهذا الأدب الذي هو من النعمة فقال: " رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم " فاستعاذ إلى ربه مما كان من طبع كلامه أن يسوقه إليه وهو سؤال نجاة ابنه ولا علم له بحقيقة حاله.
ومن الدليل على أنه لم يقع منه سؤال بعد هو قوله: " أعوذ بك أن أسألك " (الخ) ولم يقل: " أعوذ بك من سؤال ما ليس لي به علم " لتدل إضافة المصدر إلى فاعله وقوع الفعل منه.
" لا تسألن " (الخ) ولو كان سأله لكان من حق الكلام أن يقابل بالرد الصريح أو يقال مثلا: " لا تعد إلى مثله " كما وقع نظيره في موارد من كلامه تعالى كقوله: " قال رب أرنى أنظر إليك قال لن تراني " (الأعراف: 143)، وقوله: " إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم - إلى أن قال - يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا " (النور: 17).
ومن دعاء نوح عليه السلام ما حكاه الله تعالى بقوله: " رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا " (نوح: 28) حكاه الله تعالى عنه في آخر سورة نوح بعد آيات كثيرة أوردها في حكاية شكواه عليه السلام الذي بثه لربه فيما جاهد به من دعوة قومه ليلا ونهارا فيما يقرب من ألف سنة من مدى حياته، وما قاساه من شدتهم وكابده من المحنة في جنب الله سبحانه، وبذل من نفسه مبلغ جهدها، وصرف منها في سبيل هدايتهم منتهى طوقها فلم ينفعهم دعاؤه إلا فرارا، ولم يزدهم نصحه إلا استكبارا.
ولم يزل بعد ما بثه فيهم من النصيحة والموعظة الحسنة وقرعه أسماعهم من الحق والحقيقة، ويشكو إلى ربه ما واجهوه به من العناد والاصرار على الخطيئة، وقابلوه