ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الانسانية التي يدعو إليها وهى معرفة الاله التي هي المطلوب الأخير عنده، وبعبارة أخرى الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية فإن الذوق الديني لا يرتضى الاشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، وإن الدين عند الله الاسلام ولا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية؟.
ومن هنا يظهر أن العرفان ينتهى إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمرا مستقلا يدعو إليه الفطرة الانسانية حتى ينتهى فروعه وأغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري.
ويمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر وهو أن الانسانية وإن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع والمدنية لاسعاد الحياة، وأثبت النقل والبحث أن رجالا أو أقواما اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سننا اجتماعية، وأجروها بين أممهم كسنن القبائل والسنة الملوكية والديمقراطية ونحوها، ولم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس وتهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشري.
نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر والأرواح ونحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض الآثار النفسانية الغريبة على سبيل الاتفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالا عجيبة وتصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه والسلوك إليه ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب ويسهل الوعر منه.
7 - يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة وحوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة، وقد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نية صادقة ونفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب، وإنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، واستناد