العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، واعتزل الناس، وترك التمتع بمزايا الحياة، وأقبل على رياضة نفسه والتفكر في أسرار الخلقة حتى قذفت المعرفة في قلبه وسنه إذ ذاك ستة وثلاثون وعند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة ولم يزل على ذلك قريبا من أربع وأربعين سنة على ما في التواريخ.
وأما الصابئون ونعني بهم أصحاب الروحانيات وأصنامها فهم وإن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقا لا تختلف كثيرا عن طرق البراهمة والبوذيين، قالوا - على ما في الملل والنحل -: إن الواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية حتى يحصل مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات فنسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم، وهذا التطهير ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا وفطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمدادا من جهة الروحانيات، والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات، وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات، وتعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة، انتهى.
وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والايجاد لكنهم متفقوا الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة.
وأما المانوية من الثنوية فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالأبدان، وان سعادتها وكمالها في التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور إما اختيارا بالترويض النفساني، وإما اضطرارا بالموت الطبيعي، معروف.
وأما أهل الكتاب ونعني بهم اليهود والنصارى والمجوس فكتبهم المقدسة وهى العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها.
ولا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا والاشتغال بتطهير السر، ولا يزال