وإذا كانت الآية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: " عليكم أنفسكم " بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذي يؤمر بسلوكه ولزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (الانعام: 153).
فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذي يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذي يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه، وهو المنتهى به إلى سعادته.
فالآية تجلى الغرض الذي تؤمه إجمالا آيات أخرى كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " (الحشر: 20).
فالآيات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذي هو زادها غدا وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهى في سير وحركة على مسافة، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسى ربه نسى نفسه، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زادا يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه.
وهذا المعنى هو الذي يؤيده التدبر التام والاعتبار الصحيح فإن الانسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه وسعادة حياته وإن اشتغل في ظاهر الامر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ".
وليس هناك إلا هذا الانسان الذي يتطور طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق من جنين وصبى وشاب وكهل وشيخ ثم الذي يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة