قوله: " لا يستوى الخبيث والطيب، الخ " والتقوى من قبيل الافعال أو التروك، وطيبها وخباثتها عنائية مجازية، وإرسال الكلام أعني قوله: " لا يستوى، الخ " إرسال المسلمات أقوى شاهد على أن المراد بالطيب والخباثة إنما هو الخارجي الحقيقي منهما فيكون الحجة ناجحة، ولو كان المراد هو الطيب والخبيث من الأعمال والسير لم يتضح ذاك الاتضاح فكل طائفة ترى أن طريقتها هي الطريقة الطيبة، وما يخالف أهواءها ويعارض مشيئتها هو الخبيث.
فالقول مبنى على معنى آخر بينه الله سبحانه في مواضع من كلامه، وهو ان الدين مبنى على الفطرة والخلقة، وان ما يدعو إليه الدين هو الطيب من الحياة، وما ينهى عنه هو الخبيث، وان الله لم يحل إلا الطيبات ولم يحرم إلا الخبائث قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " (الروم:
30)، وقال: " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " (الأعراف: 157).
وقال: " قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق " (الأعراف: 32).
فقد تحصل أن الكلام أعني قوله: " لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث "، مثل مضروب لبيان أن قواعد الدين ركبت على صفات تكوينية في الأشياء من طيب أو خباثة مؤثرة في سبيل السعادة والشقاوة الانسانيتين، ولا يؤثر فيها قلة ولا كثرة فالطيب طيب وإن كان قليلا، والخبيث خبيث وإن كان كثيرا.
فمن الواجب على كل ذي لب يميز الخبيث من الطيب، ويقضى بأن الطيب خير من الخبيث، وأن من الواجب على الانسان أن يجتهد في إسعاد حياته، ويختار الخير على الشر أن يتقى الله ربه بسلوك سبيله، ولا يغتر بانكباب الكثيرين من الناس على خبائث الأعمال ومهلكات الأخلاق والأحوال، ولا يصرفه الأهواء عن اتباع الحق بتوليه أو تهويل لعله يفلح بركوب السعادة الانسانية.
قوله تعالى: " فاتقوا الله يا أولى الألباب لعلكم تفلحون " تفريع على المثل المضروب في صدر الآية، ومحصل المعنى أن التقوى لما كان متعلقه الشرائع الإلهية التي تبتنى هي أيضا على طيبات وخبائث تكوينية في رعاية أمرها سعادة الانسان وفلاحه