الاعتبار بالحق وإن كان قليلا أهله وشاردة فئته، والركون إلى الخير والسعادة وإن أعرض عنه الأكثرون ونسيه الأقوون، فإن الحق لا يعتمد في نواميسه إلا على العقل السليم، وحاشا العقل السليم أن يهدى إلا إلى صلاح المجتمع الانساني فيما يشد أزره من أحكام الحياة وسبل المعيشة الطيبة سواء وافق أهواء الأكثرين أو خالف، وكثيرا ما يخالف، فهو ذا النظام الكونى وهو محتد الآراء الحقة لا يتبع شيئا من أهوائهم، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.
قوله تعالى: " قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " كأن المراد بعدم استواء الخبيث والطيب أن الطيب خير من الخبيث، وهو أمر بين فيكون الكلام مسوقا للكناية، وذلك أن الطيب بحسب طبعه وبقضاء من الفطرة أعلى درجة وأسمى منزلة من الخبيث، فلو فرض انعكاس الامر وصيرورة الخبيث خيرا من الطيب لعارض يعرضه كان من الواجب أن يتدرج الخبيث في الرقي والصعود حتى يصل إلى حد يحاذي الطيب في منزلته ويساويه ثم يتجاوزه فيفوقه فإذا نفى استواء الخبيث والطيب كان ذلك أبلغ في نفى خيرية الخبيث من الطيب.
ومن هنا يظهر وجه تقديم الخبيث على الطيب، فإن الكلام مسوق لبيان أن كثرة الخبيث لا تصيره خيرا من الطيب، وإنما يكون ذلك بارتفاع الخبيث من حضيض الرداءة والخسة إلى أوج الكرامة والعزة حتى يساوى الطيب في مكانته ثم يعلو عليه ولو قيل: لا يستوى الطيب والخبيث كانت العناية الكلامية متعلقة ببيان أن الطيب لا يكون أردى وأخس من الخبيث، وكان من الواجب حينئذ أن يذكر بعده أمر قلة الطيب مكان كثرة الخبيث فافهم ذلك.
والطيب والخباثة على ما لهما من المعنى وصفان حقيقيان لأشياء حقيقية خارجية كالطعام الطيب أو الخبيث والأرض الطيبة أو الخبيثة قال تعالى: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " (الأعراف: 58)، وقال تعال: " والطيبات من الرزق " (الأعراف: 32)، وإن اطلق الطيب والخباثة أحيانا على شئ من الصفات الوضعية الاعتبارية كالحكم الطيب أو الخبيث والخلق الطيب أو الخبيث فإنما ذلك بنوع من العناية.
هذا ولكن تفريع قوله: " فاتقوا الله يا أولى الألباب لعلكم تفلحون " على