كانت الجاهلية تعبدها، وأعطوك حلية المخلوقين لما اقتضت أوهامهم ذلك، من حيث لم يألفوا أن يكون القادر الفاعل العالم إلا جسما، وجعلوك مركبا ومتجزئا، كما تتجزأ الأجسام، وقدروك على هذه الخلقة، يعنى خلقة البشر المختلفة القوى، لأنها مركبة من عناصر مختلفة الطبائع. ثم كرر الشهادة فقال: أشهد أن من ساواك بغيرك، وأثبت أنك جوهر أو جسم فهو عادل بك كافر. وقالت تلك الخارجية للحجاج: (أشهد أنك قاسط عادل)، فلم يفهم أهل الشام حوله ما قالت، حتى فسره لهم، قال عليه السلام فمن يذهب إلى هذا المذهب فهو كافر بالكتاب، وبما دلت عليه حجج العقول. ثم قال:
وإنك أنت الله، أي وأشهد أنك أنت الله الذي لم تحط العقول بك، كإحاطتها بالأشياء المتناهية، فتكون ذا كيفية.
وقوله: (في مهب فكرها) استعارة حسنة، ثم قال: (ولا في رويات خواطرها)، أي في أفكارها. محدود، إذ حد مصرفا: أي قابلا للحركة والتغير.
وقد استدل بعض المتكلمين على نفى كون الباري، سبحانه جسما بما هو مأخوذ من هذا الكلام، فقال: لو جاز أن يكون الباري جسما، لجاز أن يكون القمر هو إله للعالم، لكن لا يجوز أن يكون القمر إله العالم، فلا يجوز أن يكون الباري جسما، بيان الملازمة أنه لو جاز أن يكون الباري سبحانه جسما، لما كان بين الإلهية وبين الجسمية منافاة عقلية، وإذا لم يكن بينهما منافاة عقلية أمكن اجتماعهما، وإذا أمكن اجتماعهما جاز أن يكون القمر هو إله العالم، لأنه لا مانع من كونه إله العالم إلا كونه جسما يجوز عليه الحركة، والأفول ونقصان ضوئه تارة وامتلاؤه أخرى، فإذا لم يكن ذلك منافيا للإلهية، جاز أن يكون القمر إله العالم، وبيان الثاني إجماع المسلمين على كفر من أجاز كون القمر إله العالم، وإذا ثبتت الملازمة وثبتت المقدمة الثانية فقد تمت الدلالة.
* * *