لكان مستحق التقديم بذلك، إلا تراه كيف وصف الأمواج بأنها مستفحلة، وأنها ترغو رغاء فحول الإبل. ثم جعل الماء جماحا ثم وصفه بالخضوع، وحصل للأرض كلكلا، وجعلها واطئة للماء به، ووصف الماء بالذل والاستخذاء، لما جعل الأرض متمعكة عليه كما يتمعك الحمار أو الفرس، وجعل لها كواهل، وجعل للذل حكمة، وجعل الماء في حكمة الذل منقادا أسيرا، وساجيا مقهورا. وجعل الماء قد كان ذا نخوة وبأو واعتلاء، فردته الأرض خاضعا مسكينا، وطأطأت من شموخ أنفه، وسمو غلوائه، وجعلها كاعمة له، وجعل الماء ذا كظة بامتلائه، كما تعتري الكظة المستكثر من الاكل. ثم جعله هامدا بعد أن كانت له نزقات، ولابدا بعد أن كانت له وثبات، ثم جعل للأرض أكتافا وعرانين، وأنوفا وخياشيم، ثم نفى النوم عن وميض البرق، وجعل الجنوب مارية درر السحاب، ثم جعل للسحاب صدرا وبوانا، ثم جعل الأرض مبتهجة مسرورة مزدهاة، وجعل لها ريطا من لباس الزهور، وسموطا تحلى بها. فيالله وللعجب! من قوم زعموا أن الكلام إنما يفضل بعضه بعضا لاشتماله على أمثال هذه الصنعة، فإذا وجدوا في مائة ورقة كلمتين أو ثلاثا منها، أقاموا القيامة، ونفخوا في الصور وملئوا الصحف بالاستحسان لذلك والاستظراف، ثم يمرون على هذا الكلام المشحون كله بهذه الصنعة على ألطف وجه، وأرصع وجه، وأرشق عبارة، وأدق معنى، وأحسن مقصد، ثم يحملهم الهوى والعصبية على السكوت عن تفضيله إذا أجملوا وأحسنوا، ولم يتعصبوا لتفضيل غيره عليه. على أنه لا عجب، فإنه كلام علي عليه السلام، وحظ الكلام حظ المتكلم، وأشبه امرأ بعض بزه!
* * * وهذا آخر الجزء السادس من الاجزاء العشرين من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي على ما جزأه (1).