ثم أعاد معاني القول الأول، فقال: إنه أنشأ الأشياء بغير روية ولا فكرة ولا غريزة أضمر عليها خلق ما خلق عليها. ولا تجربة أفادها، أي استفادها، من حوادث مرت عليه من قبل، كما تكسب التجارب علوما لم تكن، ولا بمساعدة شريك أعانه عليها، فتم خلقه بأمره إشارة إلى قوله: (ولم يستصعب إذ أمر بالمضي)، فلما أثبت هناك كونها أمرت أعاد لفظ الامر هاهنا، والكل مجاز، ومعناه نفوذ إرادته، وأنه إذا شاء أمرا استحال ألا يقع، وهذا المجاز هو المجاز المستعمل في قوله تعالى: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)، تعبيرا بهذا اللفظ عن سرعة مواتاة الأمور له، وانقيادها تحت قدرته.
ثم قال: ليس كالواحد منا يعترض دون مراده ريث وبطء، وتأخير والتواء. ثم قال: وأقام العوج وأوضح الطريق، وجمع بين الأمور المتضادة، ألا ترى أنه جمع في بدن الحيوانات والنبات بين الكيفيات المتباينة المتنافرة، من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، ووصل أسباب أنفسها بتعديل أمزجتها، لان اعتدال المزاج أو القرب من الاعتدال سبب بقاء الروح. وفرقها أجناسا مختلفات الحدود والاقدار، والخلق والأخلاق والاشكال، أمور عجيبة بديعة مبتكرة الصنعة، غير محتذ بها حذو صانع سابق، بل مخلوقة على غير مثال، قد أحكم سبحانه صنعها، وخلقها على موجب ما أراد، وأخرجها من العدم المحض إلى الوجود، وهو معنى الابتداع، فإن الخلق في الاصطلاح النظري على قسمين:
أحدهما صورة تخلق في مادة، والثاني مالا مادة له، بل يكون وجود الثاني من الأول فقط من غير توسط المادة، فالأول يسمى التكوين، والثاني يسمى الابداع، ومرتبة الابداع أعلى من مرتبة التكوين.
* * *