أحداثا! نعم والله إن أصحابي لشباب مكتهلون (1) في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم (2)، قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا، قد خلطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، محنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار، وكلما مروا بآية رجاء شهقوا شوقا إلى الجنة، وإذا نظروا إلى السيوف وقد انتضيت، وإلى الرماح وقد أشرعت، وإلى السهام وقد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا وعيدها عند وعيد الله، وانغمسوا فيها.
فطوبى لهم وحسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله! وكم من يد قد أبينت عن ساعدها، طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا في طاعة الله! أقول قولي هذا وأستغفر الله، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وأما الخطبة الثانية، فقوله:
يا أهل المدينة، مالي رأيت رسم الدين فيكم عافيا، وآثاره دارسة! لا تقبلون عظة، ولا تفقهون من أهله حجة، قد بليت فيكم جدته، وانطمست عنكم سنته، ترون معروفه منكرا، والمنكر من غيره معروفا، فإذا انكشفت لكم العبر، وأوضحت لكم النذر، عميت عنها أبصاركم، وصمت عنها آذانكم، ساهين في غمرة، لاهين في غفلة، تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر، وتنقبض عن الحق إذا ذكر، مستوحشة من العلم، مستأنسة بالجهل، كلما وردت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا، تحملون قلوبا في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة، فهي لا تلين بكتاب الله، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشيه الله!