فإذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي يظهر من مجموع الآيات والاخبار على ما نفهمه أن الدنيا المذمومة مركبة من مجموع أمور يمنع الانسان من طاعة الله وحبه، وتحصيل الآخرة، فالدنيا والآخرة ضرتان متقابلتان، فكلما يوجب رضى الله سبحانه وقربه فهو من الآخرة، وإن كان بحسب الظاهر من أعمال الدنيا كالتجارات والصناعات والزراعات التي يكون المقصود منها تحصيل المعيشة للعيال، لامره تعالى به وصرفها في وجوه البر، وإعانة المحتاجين والصدقات، وصون الوجه عن السؤال وأمثال ذلك، فان هذه كلها من أعمال الآخرة، وإن كان عامة الخلق يعدونها من الدنيا.
والرياضات المبتدعة، والأعمال الريائية، وإن كان مع الترهب وأنواع المشقة فإنها من الدنيا لأنها مما يبعد عن الله ولا يوجب القرب إليه، كأعمال الكفار والمخالفين، فرب مترهب متقشف يعتزل الناس ويعبد الله ليلا ونهارا، وهو أحب الناس للدنيا، وإنما يفعل ذلك ليخدع الناس ويشتهر بالزهد والورع وليس في قلبه إلا جلب قلوب الناس، ويحب المال والجاه والعزة، وجميع الأمور الباطلة أكثر من ساير الخلق، وجعل ترك الدنيا ظاهرا مصيدة لتحصيلها، ورب تاجر طالب للاجر لا يعده الناس شيئا وهو من الطالبين للآخرة لصحة نيته وعدم حبه للدنيا.
وجملة القول في ذلك أن المعيار في العلم بحسن الأشياء وقبحها وما يجب فعلها وتركها الشريعة المقدسة، وما صدر في ذلك عن أهل بيت العصمة صلوات الله عليهم، فما علم من الآيات والاخبار أن الله سبحانه أمر به وطلبه من عباده، سواء كان صلاة أو صوما أو حجا أو تجارة أو زراعة أو صناعة أو معاشرة للخلق أو عزلة أو غيرها وعملها بشرائطها وآدابها بنية خالصة فهي من الآخرة وما لم يكن كذلك فهو من الدنيا المذمومة المبعدة عن الله وعن الآخرة.
وهي على أنواع فمنها ما هو حرام، وهو ما يستحق به العقاب، سواء كان عبادة مبتدعة أو رياء وسمعة أو معاشرة الظلمة أو ارتكاب المناصب المحرمة أو تحصيل