النار في النار معذبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة، وحوائجهم خفيفة، صبروا أياما قليلة، فصاروا بعقبى راحة طويلة، أما الليل فصافون أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم، وهم يجأرون إلى ربهم، يسعون في فكاك رقابهم.
وأما النهار فحكماء علماء، بررة، أتقياء، كأنهم القداح، قد براهم الخوف من العبادة، ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض، أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم، من ذكر النار وما فيها (1).
توضيح: " إن الدنيا قد ارتحلت " يقال رحل وارتحل اي شخص وسار " مدبرة " المراد بادبار الدنيا تقضيها وانصرامها وباقبال الآخرة قرب الموت وما يكون بعدها من نعيم أو عذاب، فشبه الدنيا وحياتها براكب حمل على مراكبها أثقالها وهي لذات الدنيا وشهواتها وأموالها، وساير ما يتعلق الانسان بها والموت براكب آخر حمل على مراكبه نعيمه وعذابه، وساير ما يكون بعده فالراكب الأول يوما فيوما وساعة فساعة في التقضي والفناء، فهو يبعد عن الانسان، والراكب الثاني يسير إلى الانسان ويقرب منه فعن قريب يصل إليه فلا بد من الاستعداد لوصوله وتلقيه بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة.
" ولكل واحدة منهما بنون " استعار عليه السلام لفظ البنين للعباد بالنسبة إلى الدنيا والآخرة فشبههم لميل كل منهم إلى إحداهما ميل الولد إلى ولده، وركون الفصيل إلى أمه، وتوقع كل منهم توقع النفع من إحداهما، ومشابهته بها وكونه مخلوقة لأجلها وشبه كلا منهما بالأب أو بالام لتأنيثهما أو الآخرة بالأب والدنيا بالام لنقصها ولمناسبة الاباء العلوية بالأولى والأمهات السفلية بالثانية، فكأن أبناء الدنيا بمنزلة أولاد الزنا لا أب لهم.
" فكونوا من أبناء الآخرة " لبقائها وخلوص لذاتها ولكونها صادقة في وعدها " ولا تكونوا من أبناء الدنيا " لفنائها وكذبها وغرورها، وكون لذاتها مشوبة بأنواع الآلام، ثم أشار عليه السلام إلى أن المقصود ليس مجرد رفض الدنيا، وترك العمل