الكلام في أقصى الدماغ، أو في أقصى القلب، حتى أن الانسان وإن كان في غاية الصمم فإنه يسمع هذه الحروف والأصوات.
ثم إن قلنا: بأن الشيطان والملك ذوات قائمة بأنفسها غير متحيزة البتة لم يبعد كونها قادرة على مثل هذه الأفعال، وإن قلنا: بأنها أجسام لطيفة لم يبعد أيضا أن يقال:
إنها وإن كانت لا تتولج بواطن البشر إلا أنهم يقدرون على إيصال هذا الكلام إلى بواطن البشر.
ولا يبعد أيضا أن يقال: إنها لغاية لطافتها يقدر على النفوذ في مضائق بواطن البشر ومخارق جسمه، وتوصل الكلام إلى قلبه ودماغه، ثم إنها مع لطافتها تكون مستحكمة التركيب بحيث يكون اتصال بعض أجزائه بالبعض اتصالا لا ينفصل، فلا جرم لا يقتضي نفوذها في هذه المضائق والمخارق انفصالها وتفرق أجزائها، وكل هذه الاحتمالات مما لا دليل على فسادها، والأمر في معرفة حقائقها عند الله تعالى، ومما يدل على إثبات إلهام الملائكة بالخير قوله تعالى: " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا (1) " أي ألهموهم بالثبات (2)، ويدل عليه من الأخبار قوله صلى الله عليه وآله: " للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ".
وفي الحديث أيضا: " إذا ولد المولود لبني آدم قرن إبليس به شيطانا وقرن الله به ملكا فالشيطان جاثم على اذن قلبه الأيسر، والملك قائم (3) على اذن قلبه الأيمن فهما يدعوانه ".
ومن الصوفية والفلاسفة من فسر الملك الداعي إلى الخير بالقوة العقلية، وفسر الشيطان الداعي إلى الشر بالقوة الشهوانية والغضبية، ودلت الآية على أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح لأن الله تعالى ذكره بكلمة إنما وهي للحصر، وقال بعض العارفين:
إن الشيطان قد يدعو إلى الخير لكن لغرض أن يجره منه إلى الشر، وذلك إلى