النفوس، ويحرض الأصحاء، وينهك المرضى، ويفسد الثمار، ويعفن البقول، و يعقب الوباء في الأبدان والآفة في الغلات؟ ففي هذا بيان أن هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق، وأنبئك عن الهواء بخلة أخرى، فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء، والهواء يؤديه إلى المسامع، والناس يتكلمون في حوائجهم ومعاملاتهم طول نهارهم وبعض ليلهم، فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه، فكان يكربهم ويفدحهم، وكانوا يحتاجون في تجديده والاستبدال به أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس، لان ما يلقى من الكلام أكثر مما يكتب، فجعل الخلاق الحكيم - جل قدسه - هذا الهواء قرطاسا خفيفا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم (1) حاجتهم، ثم يمحى فيعود جديدا نقيا ويحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع، وحسبك بهذا النسيم لمسمى هواء عبرة وما فيه من المصالح، فإنه حياة هذه الأبدان والممسك لها من داخل بما يستنشق منه، ومن خارج بما تباشر من روحه، وفيه تطرد هذه الأصوات فيؤدي بها من البعيد، وهو الحامل لهذه الأراييح ينقلها من موضع إلى موضع. ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح؟ فكذلك الصوت، وهو القابل لهذا الحر والبرد اللذين يعتقبان على العالم لصلاحه، ومنه هذه الريح الهابة، فالريح تروح عن الأجسام، وتزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكثف فيمطر وتفضه حتى يستخف فيتفشى وتلقح الشجر، وتسير السفن، وترخي الأطعمة، وتبرد الماء وتشب النار، و تجفف الأشياء الندية، وبالجملة إنها تحيي كل ما في الأرض، فلولا الريح لذرى النبات، ومات الحيوان، وحمت الأشياء وفسدت.
بيان: ركود الريح سكونها، والتحريض إفساد البدن، ونهكته الحمى أي أضنته وهزلته وقوله " والهواء يؤديه " يدل على ما هو المذهب المنصور من تكيف الهواء بكيفية الصوت كما فصل في محله. ويقال: كربه الامر أي شق عليه، وفدحه