فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) إليها وساقها بين يديه إلى منزلها.
ولم تزل على ذلك إلى أن مضى لها بعد موت أبيها سبعة وعشرون يوما، و اعتلت العلة التي توفيت فيها، فبقيت إلى يوم الأربعين، وقد صلى أمير المؤمنين (عليه السلام) صلاة الظهر وأقبل يرد المنزل إذا استقبلته الجواري باكيات حزينات فقال لهن: ما الخبر ومالي أراكن متغيرات الوجوه والصور؟ فقلن: يا أمير المؤمنين أدرك ابنة عمك الزهراء (عليها السلام) وما نظنك تدركها.
فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) مسرعا حتى دخل عليها، وإذا بها ملقاه على فراشها وهو من قباطي مصر وهي تقبض يمينا وتمد شمالا، فألقى الرداء عن عاتقه والعمامة عن رأسه، وحل أزراره، وأقبل حتى أخذ رأسها وتركه في حجره، و ناداها: يا زهراء! فلم تكلمه، فناداها: يا بنت محمد المصطفى! فلم تكلمه، فناداها:
يا بنت من حمل الزكاة في طرف ردائه وبذلها على الفقراء! فلم تكلمه، فناداها:
يا ابنة من صلى بالملائكة في السماء مثنى مثنى! فلم تكلمه، فناداها: يا فاطمة كلميني فأنا ابن عمك علي بن أبي طالب.
قال: ففتحت عينيها في وجهه ونظرت إليه وبكت وبكى وقال: ما الذي تجدينه فأنا ابن عمك علي بن أبي طالب.
فقالت: يا ابن العم إني أجد الموت الذي لا بد منه ولا محيص عنه، وأنا أعلم أنك بعدي لا تصبر على قلة التزويج فإن أنت تزوجت امرأة اجعل لها يوما وليلة واجعل لأولادي يوما وليلة يا أبا الحسن ولا تصح في وجوههما فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين فإنهما بالأمس فقدا جدهما واليوم يفقدان أمهما، فالويل لامة تقتلهما وتبغضهما ثم أنشأت تقول:
ابكني إن بكيت يا خير هادي * وأسبل الدمع فهو يوم الفراق يا قرين البتول أوصيك بالنسل * فقد أصبحا حليف اشتياق ابكني وابك لليتامى ولا تنس * قتيل العدى بطف العراق