يجوز له أن يسلم نفسه للقتل ولا يظهر كلمة الكفر إعزازا للدين، وإنما استفحش عليه السلام البراءة لأن هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز إلا من المشركين ألا ترى إلى قوله تعالى: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) " وقال الله تعالى: " أن الله برئ من المشركين ورسوله (2) " فقد صارت بحكم العرف الشرعي مطلقة على المشركين خاصة، فإذن يحمل هذا النهي على ترجيح تحريم لفظ البراءة على تحريم لفظ السب وإن كان حكمهما واحدا، ألا ترى أن إلقاء المصحف في العذرة (3) أفحش من إلقائه في دن الشراب وإن كانا جميعا محرمين وكان حكمهما واحدا، فأما الامامية فتروي عنه أنه قال: " إذا عرضتم على البراءة منا فمدوا الأعناق " ويقولون: إنه لا يجوز التبري عنه وإن كان الحالف صادقا وأن عليه الكفارة ويقولون: إن للبراءة من الله ومن الرسول ومن إحدى الأئمة حكما واحدا ويقولون: الاكراه على السب يبيح إظهاره ولا يجوز الاستسلام للقتل ويجوز أن يظهر التبري (4)، والأولى أن يستسلم للقتل.
فإن قيل: كيف علل نهيه لهم من البراءة منه بقوله: " فإني ولدت على الفطرة " فإن هذا التعليل لا يختص به لان كل ولد يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه؟ والجواب أنه علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أمور وهو كونه ولد على الفطرة وسبق إلى الايمان والهجرة، ولم يعلل بآحاد هذا المجموع ومراده هنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية لأنه ولد لثلاثين عاما مضت من عام الفيل، والنبي أرسل لأربعين مضت من عام الفيل، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه مكث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء ولا يخاطبه أحد، وكان ذلك إرهاصا لرسالته (5) فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته صلى الله عليه وآله