القوم جميعا للمشورة والنظر في أمورهم، وأسرعت إليهم القبائل من مذحج وعك وحمير وأنمار ومن دنا منهم نسبا ودارا من قبائل سبأ، وكلهم قد روم أنفه أنفة وغضبا لقومهم، ونكص من تكلم منهم بالاسلام ارتدادا، فخاضوا (1) وأفاضوا في ذكر المسير بنفسهم وجمعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله والنزول به بيثرب لمناجزته، فلما رأى أبو حارثة (2) حصين بن علقمة أسقفهم الأول وصاحب مدارسهم وعلامهم، وكان رجلا من بني بكر بن وائل، ما أزمع القوم عليه من إطلاق الحرب دعا بعصابة فرفع بها حاجبيه عن عينيه وقد بلغ يومئذ عشرين ومائة سنة، ثم قام فيهم خطيبا معتمدا على عصا، و كانت فيه بقية وله رأي وروية، وكان موحدا يؤمن بالمسيح وبالنبي عليهما السلام، ويكنم ذلك (3) من كفرة قومه وأصحابه، فقال: مهلا بني عبد المدان، مهلا استديموا العافية والسعادة، فإنهما مطويان في الهوادة، دبوا إلى (4) قوم في هذا الامر دبيب الذر، وإياكم والسورة العجلي فإن البديهة بها لا تنجب، إنكم والله على فعل ما لم تفعلوا أقدر منكم على رد ما فعلتم، ألا إن النجاة مقرونة بالأناة، الإرب إحجام أفضل من إقدام، وكأين من قول أبلغ من صول، ثم أمسك فأقبل عليه كرز بن سبرة (5) الحارثي، وكان يومئذ زعيم بني الحارث بن كعب، وفي بيت شرفهم والمعصب (6) فيهم وأمير حروبهم، فقال: لقد انتفخ سحرك، واستطير قلبك أبا حارثة فظلت كالمسبوع اليراعة المهلوع (7) تضرب لنا الأمثال، وتخوفنا النزال، لقد علمت وحق المنان بفضيلة الحفاظ بالنوء بالعبء وهو عظيم، ونلقح (8) الحرب وهي عقيم نثقف أود الملك الجبار، ولنحن أركان الرايس (9) وذي المنار اللذين شددنا ملكهما (10)
(٢٨٨)