تحمل (الباء) في الآية على التبعيض توفية لحقها وإن كانت في الأصل للإلصاق، إذ لا منافاة بينهما، لأنها تكون مستعملة للإلصاق في البعض المفروض.
والدليل على أنها للتبعيض: ما روى عمر بن علي بن مقدم، عن إسماعيل بن حماد، عن أبيه حماد، عن إبراهيم، في قوله: * (وامسحوا برؤوسكم) * قال: إذا مسح بعض الرأس أجزأه. قال: فلو قال: (وامسحوا رؤوسكم) كان الفرض مسح الرأس كله، وقد كان من أهل اللغة مقبولا القول فيها.
ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس، والاقتصار على البعض، وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض، فحينئذ احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي هو حده.
فإن قلت: لو كانت للتبعيض لما جاز أن يقال: مسحت برأسي كله، كما لا يقال:
مسحت ببعض رأسي كله.
قلت: قد بينا أن حقيقتها إذا أطلقت التبعيض، مع احتمال كونها ملغاة، فإذا قال:
مسحت برأسي كله، علمنا أنه أراد أن تكون (الباء) ملغاة، نحو قوله تعالى:
* (ما لكم من إله غيره) *.
فإن قلت: قال ابن جني وابن برهان: من زعم أن (الباء) للتبعيض، فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه.
قلت: أثبت الأصمعي والفارسي والقينبي وابن مالك التبعيض. وقيل: هو مذهب الكوفيين، وجعلوا منه: * (عينا يشرب بها عباد الله) * وقول الشاعر:
شربن بماء البحر ثم ترفعت *...) (1) انتهى ما نقله العيني عن أبي بكر الرازي، وقد أجاد فيما أفاد وإن لم يكن كلاما خاليا من موارد للنظر.