لقد كان عمرو بن العاص أحد دهاتها الكبار. كما كان على بينة من المتطلب الديني، وحيث إن الدنيا هي من يتصدر قائمة الأولويات في اهتمام عمرو، وحيث أنه لم يكن له إيمان يمنعه من الوقوف في وجه الحق والشرع، فإنه حول المسألة منذ البداية إلى صفقة تجارية.
ومعاوية، يدرك بحكم الدهاء والمكيدة أن عمرو من تلك الطينة. ويدرك أنه ما هرب بنفسه عن عثمان وخذلانه إياه، إلا اعتصاما بمصلحة الذات ورغباتها.
وما أشد معرفة الداهية بالداهية.
وكان وردان غلاما لعمرو لا يقل دهاء قال له يوم عزم على اللحاق بمعاوية:
أما وإنك إن شئت نبأتك بما في نفسك. فقال عمرو: هات يا وردان.
فقال:
اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلت مع علي الآخرة بلا دنيا، ومع معاوية دنيا بغير آخرة، فأنت واقف بينهما. فقال عمرو: ما أخطأت ما في نفسي (180).
هناك كثير مما يمكن أن يستفيده عمرو من معاوية، فهو أهل دنيا، والتفاوض مع أهل الدنيا، سهل، بل وهو أمر مؤكد بالنسبة لرجل مثل عمرو لا يأبه برجالاتها. بخلاف ما يمكن أن يحصل لو أن الأمر في يد رجل مثل علي (ع)، لا يرى بابا أمام أهل الأهواء إلا غلقه ولا بابا ينزوون خلفه إلا فتحه.
وهناك، كذلك الكثير مما يمكن أن يستفيده معاوية من عمرو. فالرجل داهية إذا انضم إليه نفعه، وإذا صار ضده ضره، وهو ذو سابقية في محاربة الإسلام، وما حك دبرة إلا أدماها، وهو رجل لا نسب له يطمعه في الرفعة، ولا دين يمنعه من المكيدة. ويذكر صاحب العقد الفريد: (181) علم معاوية والله إن لم يبايعه