فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق، لأن حصوله من الله تعالى بلا واسطة ووسيلة، وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة، فإنهم تعلموا طول عمرهم وحصلوا بفنون الطرق الكثيرة العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات، وآدم لما جاء ما كان عالما لأنه ما تعلم وما رأى معلما، فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا: (نحن نسبح بحمدك ونقدسك لك) ونعلم حقائق الأشياء، فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه وأقبل بالاستغاثة على الرب تعالى، فعلمه الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال:
(أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) فصغر حالهم عند آدم وقل علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في العجز فقالوا: (لا علم لنا)، فقال تعالى:
(يا آدم أنبئهم بأسمائهم) فأنبئهم آدم عن مكنونات الغيب ومستترات الأمر.
فتقرر الأمر عند العقلاء: أن العلم الغيبي المتولد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وكان أعلم وأفصح العرب والعجم، وكان يقول: أدبني ربي فأحسن تأديبي، وقال لقومه: أنا أعلمكم بالله وأخشاكم من الله، وإنما كان علمه أشرف وأكمل وأقوى لأنه حصل عن التعليم الرباني وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنساني، فقال تعالى: (علمه شديد القوى) ".
وقال القاضي عياض:
" فصل: ومن معجزاته الباهرة: ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم، وخصه به من الاطلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور شرائعه وقوانين دينه وسياسة عباده ومصالح أمته، وما كان في الأمم قبله، وقصص الأنبياء والرسل والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه، وحفظ شرائعهم وكتبهم، ووعي سيرهم وسرد أنبائهم وأيام الله فيهم، وصفات أعيانهم واختلاف آرائهم، والمعرفة بمددهم وأعمارهم، وحكم حكمائهم، ومحاجة كل أمة من الكفرة،