فإن قالوا: أخذنا في هذه المسائل بمذهب أبي حنيفة - رحمه الله - وأنه حق، فما بالهم يطعنون عليه ويلعنون؟!
وإن قالوا: مذهبه باطل ومذهبنا حق، فما بالهم يلابسون المحظورات ويقارفون المنهيات، ويبارزون بالمعاصي لمالك الأوامر والنواهي، وهم يعلمون ذلك ولا يتناهون عنه ولا يرجعون، بل يتعاونون على ذلك ويتظافرون وعلى ذلك يموتون ولا يتوبون عن ذلك ولا يتذكرون؟!
ومما يؤيد هذا ويوضحه أنك ترى أعلمهم وأزهدهم إذا تمكن من أمير أو وزير يعتقد أنه ظالم غاشم يجري معه في هواه ويوافقه فيما يهواه، فيمدحه في وجهه بما ليس فيه حتى يصمه ويعميه، ومذهبه أنه لا ولاية لهذا الأمير والوزير على أولاده الصغار تزويجا وعلى أموالهم بيعا وشراء، وعلى تزويج بنته البكر البالغة، فضلا عن أن يثبت له ولايته على العوام وأموال الأيتام والأوقاف وأموال بيت المال، وأن توليته لا تصح، وأن الأنكحة بحضرة أمثاله لا تنعقد، ومع ذلك يتقلد منه القضاء والنظر في الأوقاف وأموال الأيتام مع اعتقاده أن توليته باطلة وتقلده فاسد، وهو في مدحه إياه وإعانته ظالم آثم ثم ربما تعدى من ذلك إلى الوزارة وجمع المال بالطرق المحرمة، ويظهر له أنه ناصح أمين وشفيق ومسكين وهو في الحقيقة خائن مبين، فيتلهى بالرجل حتى يصل إلى أغراض فاسدة، من التقدم على العوام وجمع الحطام وتخريب المدارس والرباطات معنى بتوليته من لا يصلح لها، إذا علم أنه يدخل معه في هواه ويوافقه فيما يهواه، وترك الصالح للتدريس والفتيا وعدم تمكينه من ذلك خوفا من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينكر عليه أفعاله ولا يحسن أحواله.
فلينظر العاقل المنصف أن من هذه صفاته هل يصلح أن يعتمد عليه في أمور الدين والدنيا، ويؤتمن عليه في المصالح ويفوض إليه تدبير المملكة، فمن هذه صفته لا يبعد منه أن يعتقد حقية مذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - ثم يظهر خلافه ليحصل له الرئاسة الكلية... ".