العقل يحكم بالوجه الثاني، لاستحالة إخفاء النبي أمرا لا تهتدي الأمة بدونه، ورضاه ببقاء الناس على الضلالة مساوق لإبطال رسالته - وهو كما ترى - إلا أن يدفعه أحد بما يجيء في الأمر الرابع والسادس.
3 - مع الغض عن الأمر الثاني، يخطر في أذهاننا ما هو هذا الأمر العظيم الذي تقع الأمة بعده في الضلالة حتى مع الكتاب والسنة؟
هل كان الأمر الحاضر في ذهنه صلى الله عليه وسلم من مباحث التوحيد أو المعاد أو شئ من المعارف الاعتقادية فهذا شئ بعيد غايته، فإن الأركان الاعتقادية والأصول الدينية قد تقررت في الكتاب والسنة في حياته، ولم يبق شئ منها يشترط في صحة الإسلام أو الإيمان، مع أن المناسب على هذا الاحتمال لزوم التعبير ب: لا تكفرون بعدي مكان لا تضلون بعدي.
وهل هو من مباحث الحلال والحرام وتفصيل أحكام المسائل الجزئية الفرعية؟ وإن شئت فقل تكميل الفقه وبيان فروعه؟ لكنه غير محتمل، لأن بيانها كان يحتاج إلى زمان طويل وكتاب مبسوط قطور.
ثم أقول: هذا المخزون في ضميره صلى الله عليه وسلم ليس من أصول الدين ولا من فروعه، لأن الله سبحانه أخبر قبل ذلك اليوم بثلاثة أشهر - بزيادة أيام أو بنقيصتها - مخاطبا الأمة الإسلامية: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)، والدين عبارة عن الأصول الاعتقادية والأحكام الفرعية (1) وموضوعاتها المستنبطة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والاعتكاف ونحو ذلك، فمع إكمال الدين لا يبقى شئ يوجب تركه ضلال الأمة.