شرح إحقاق الحق - السيد المرعشي - ج ٣٢ - الصفحة ٩٤

اتصفت بالفطنة والذكاء، والدقة وصواب التفكير، وأدت إلى سداد الرأي وإحقاق الحق. ونحن نوجز هنا بعض الأمثلة عن تلك الأقضية، مختارة من كتاب الطرق الحكمية، على أن نذكر غيرها في فصول لاحقة.
منها قضية نسب: ادعى غلام أمام عمر الفاروق على امرأة أنها أمه، فجاءت المرأة بنفر شهدوا بأنها لم تتزوج، وأن الولد كاذب، فأمر عمر بضرب المدعي حد القذف.
فعلم الإمام علي بذلك، فتداخل وعرض على الغلام أن يتزوج المدعى عليها.
فصرخت المرأة: الله الله، هو النار، والله ابني. ثم أقرت أن أهلها زوجوها زنجيا دون رضاها، فحملت منه هذا الغلام وذهب الزوج غازيا فقتل وبعثت هي بالولد إلى قوم نشأ بينهم، وأنفت أن يكون ابنها. فحكم علي بثبوت نسب الغلام، وبإلحاقه بالمدعى عليها.
وقضية قتل: ادعى شاب لدى الإمام علي أن أباه ذهب مع نفر في سفر، وأنهم لما عادوا زعموا أن والده مات ولم يترك شيئا من المال، وأن القاضي شريحا استحلفهم وأخلى سبيلهم. فأمر الإمام بتوكيل شرطين بكل من المدعى عليهم، لمنعهم من الاختلاط فيما بينهم، ثم استجوبهم كلا منهم على حدة، عن تفصيلات يوم خروجهم، ومكان نزولهم، وعلة موت رفيقهم، وكيف أصيب بماله، وكيف دفن وأين، وما شاكل من الأسئلة الدقيقة. فكانت الأجوبة متناقضة، فأمر بسجنهم، فظن كل منهم أن صاحبه قد أقر، فأقروا عندئذ جميعا بحقيقة القضية. وبالنتيجة، حكم الإمام بتغريمهم المال، وبإعدامهم قصاصا.
فهذه القضية تثبت جواز تفريق المدعى عليهم، لأجل التحري عن الحقيقة، والوصل إلى الحكم بالعدل. وتثبيت أن الإقرار على أثر ذلك يعتبر صحيحا غير مشوب بالإكراه.
وقال القاضي العلامة محمد بن خلف بن وكيع القرطبي المتوفى سنة 306 في " أخبار القضاة " (ج 1 ص 5 ط القاهرة):
وروايته لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وهو أجل القضاة، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على القضاء في حياته.
وقال الدكتور محمد مصطفى أمبابي أستاذ الفقه المقارن بجامعة مصر في " الجديد في تاريخ الفقه الإسلامي " (ص 107 ط دار المنار - القاهرة):
وقد كانت براعة علي في القضاء أمنية تمناها الرسول صلى الله عليه وسلم، وحققها الله سبحانه وتعالى له، فقد قال علي: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قلت له: يا رسول الله، بعثتني وأنا شاب أقضي بينهم، ولا أدري ما القضاء، فضرب الرسول صدري بيده ثم قال: اللهم اهد قلبه، فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين.
وقد استطاع علي كرم الله وجهه أن يجمع بين سلاحي الفقيه الناجح: العقل والنص، فضم إلى فطنته وبراعته كثيرا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من رؤساء المفتين في عصره. ويبدو أن إكثاره من أحاديث كان راجعا إلى أمرين: حب علي للتلقي عن رسول الله ورغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تفقيه علي، وإنماء حاسته العلمية، ويدل لذلك أنه سئل يوما، فقيل له يا علي، ما لك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا؟ فقال: إني كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكت ابتدأني.
وكان المتوقع وعلي بهذه الصفة من الفقه والعلم، أن نجد علمه، وفقهه على لسان الجمهور من الرواة والفقهاء، لكن هؤلاء لم ينقلوا عنه إلا قليل، وعن طريق جماعة معينة من الناس. ومع أن ابن القيم جعل عليا من المكثرين في الفتوى إلا أنه أسقطه من عداد الناشرين للفقه، واقتصر على أربعة فقط، هم: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعلل مسلكه بقوله: قاتل الله الشيعة، فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه، ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه فتواه إلا ما كان عن طريق أهل بيته، وأصحاب عبد الله ابن مسعود، ولكن بعض الباحثين لم يرتض هذا التعليل من ابن القيم، وأرجع قلة المروي عن علي إلى محاربة الحكم الأموي لكل آثاره العلمية، حتى يضمحل شأنه، ولا يشيع بين الناس ذكره.
وقال الفاضل المعاصر الدكتور فاروق عبد العليم موسى رئيس محكمة الاستئناف في " الشريعة الإسلامية أصل أحكام القضاء " (ص 79 ط دار الأقصر للكتاب، كرداسة - جيرة):
ومن قضاء علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه:
من بين ما تميز الإمام علي الصواب في القضاء وذلك منذ أن أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ودعا له: اللهم ثبت لسانه واهد قلبه، وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام له: إن الله سيهدي لسانك ويثبت قلبك، ويقول الإمام علي: فما شككت في قضاء بين اثنين قط، وفي رواية: وما أشكل علي قضاء بعد.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وأقضاهم علي بن أبي طالب.
وكان علي رضي الله تعالى عنه يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فإن لم يجد نصا اجتهد رأيه فيهما.
ونورد آخر قضية فيها وهو يعالج سكرات الموت ويعاني من آلام الجراح، والمتهم فيها هو الذي طعنه طعنات قاتلة بسيف مسموم، قال رضي الله تعالى عنه عن ابن ملجم: إنه أسير، فأحسنوا نزله وأكرموا مثواه، فأن بقيت قتلت أو عفوت وإن مت فاقتلوه قتلتي، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وقال في الهامش:
مسند أحمد / 1 / 83، 88، سنن أبي داود / 2 / 114، الحاكم / 3 / 135 وقال:
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
منتخب كنز العمال هامش مسند أحمد / 5 / 63، وروى وكيع بسنده عن ابن عمر وشداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقضى أمتي علي، وروى عن عمر قوله أقضانا علي. أخبار القضاة / 1 / 88.
الطبقات الكبرى / ابن سعد / 1 / ق 3 / 23، المستدرك للحاكم / 3 / 144 وفيه:
فإن أعش فهضم أو قصاص، وأن مت فعاجلوه فإني مخاصمه عند ربي عز وجل.
(٩٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 90 91 92 93 94 94 101 102 103 104 105 ... » »»
الفهرست
الرقم العنوان الصفحة
1 مستدرك ترجمة الإمام على عليه السلام 3
2 مستدرك ألقابه عليه السلام وكناه الشريفة 32
3 مولد علي عليه السلام 33
4 تزويج أمير المؤمنين بفاطمة الزهراء عليهما السلام 41
5 حديث: علمني ألف باب يفتح من كل باب ألف باب 50
6 حديث: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطى على تسعة 57
7 كلام ابن عباس في علم علي عليه السلام 57
8 حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها 58
9 حديث: سلوني قبل أن تفقدوني 58
10 قول على عليه السلام: سلوني عن طرق السماوات فإني أعلم بها من طرق الأرض 68
11 جوابه عليه السلام لليهود 69
12 لأمير المؤمنين علم ظاهر كتاب الله وباطنه 70
13 أول من وضع علم النحو علي بن أبى طالب عليه السلام 77
14 علمه عليه السلام بالجفر 87
15 ما ورد أن أمير المؤمنين كان أفرض أهل المدينة وأقضاها 93
16 مستدرك أقضى الأمة علي عليه السلام 101
17 حديثه وحديث ابن عباس في ذلك 101
18 حديث جابر وأنس بن مالك 102
19 حديث عبد الله بن مسعود 103
20 قول عمر علي أقضانا 106
21 قصة زبية الأسد وقضاء علي عليه السلام 120
22 قضاؤه عليه السلام في الأرغفة 125
23 أمر علي عليه السلام الزوجين أن يبعثا حكما من أهلهما 129
24 من أقضيته عليه السلام 131
25 أول من فرق الخصوم علي عليه السلام 173
26 جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة 173
27 قضاؤه في الخنثى المشكل سأله معاوية 174
28 قضاؤه في ثلاثة نفر وقعوا على امرأة ولدت 175
29 عدل علي عليه السلام في الحكومة 189
30 ما ورد في زهد أمير المؤمنين وعدله وإنفاقه في سبيل الله تعالى 212
31 من عدله أمره بكنس بيت المال ثم ينضحه ويصلى فيه ولم يحبس فيه المال عن المسلمين 250
32 زهد علي عليه السلام وعدله 255
33 عفوه عليه السلام وحلمه وصفحه عن عدوه 288
34 من عدله ما أوصاه في قاتله بإطعامه وسقيه والاحسان إليه وعدم التمثيل به 289
35 خوفه عليه السلام من الله تعالى 296
36 إنفاقه في سبيل الله تعالى 297
37 إعطاؤه عليه السلام حلة للسائل الذي كتب حاجته على الأرض بأمره 297
38 صدقات علي عليه السلام 301
39 شجاعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام 305
40 قتل أمير المؤمنين حية وهو في المهد صبي 338
41 مبيته علي فراش رسول الله صلى الله عليه وآله ليلة الهجرة 339
42 ان عليا كان معه راية رسول الله " ص " في بدر وأحد وغيرهما 341
43 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم بدر 344
44 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم أحد 351
45 لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي 357
46 ما ورد في شجاعته عليه السلام يوم الأحزاب 363
47 ما ورد في شجاعته يوم خيبر 374
48 ما ورد في شجاعته يوم حنين والطائف 396
49 شجاعته عليه السلام في بنى قريظة 399
50 شجاعته عليه السلام في حرب جمل 399
51 إخبار النبي " ص " لعلي عما يكون بينه وبين عائشة 403
52 قول النبي لأزواجه: أيتكن صاحبة الجمل تنبحها كلاب الحوأب 405
53 جعل رسول الله " ص " طلاق نسائه بيد علي في حياته وبعد مماته 412
54 إخفاء عائشة اسم أمير المؤمنين علي عليه السلام 414
55 قصة حرب الجمل 417
56 ما صدر من شجاعته عليه السلام يوم صفين 513
57 قتل مع علي بصفين من البدريين خمسة وعشرون بدريا 520
58 شجاعته عليه السلام يوم النهروان 523
59 الخوارج والأخبار الواردة فيهم عن النبي والوصي عليهما السلام 523
60 ذم الخوارج وسوء مذهبهم وإباحة قتالهم 536
61 إخباره عليه السلام عن الخوارج وعن ذي ثديتهم 537
62 اخبار النبي " ص " عن الخوارج المارقة 582
63 اخبار النبي " ص " عن شهادة علي عليه السلام 595
64 حديث أنس بن مالك 595
65 حديث أبى رافع 596
66 حديث جابر بن سمرة 597
67 اخباره عليه السلام عن شهادة نفسه 603
68 حديث محمد بن الحنفية 603
69 حديث فضالة بن أبى فضالة 604
70 حديث الأصبغ بن نباتة الحنظلي 606
71 حديث زيد بن وهب 609
72 حديث أبى مجلز وأبى الأسود 610
73 حديث أبى الطفيل 611
74 حديث نبل بنت بدر 613
75 حديث سالم بن أبى الجعد 614
76 حديث عبيدة وأم جعفر 615
77 حديث عثمان بن مغيرة 616
78 حديث كثير وروح بن أمية 617
79 حديث يزيد بن أمية الديلي 618
80 حديث عبد الله بن سبع 619
81 حديث ثعلبة بن يزيد الحماني 620
82 حديث والد خالد أبي حفص 620
83 ما روى جماعة مرسلا 621
84 استشهاد أمير المؤمنين بيد أشقى الناس ابن ملجم 624
85 قول علي عليه السلام: فزت ورب الكعبة 643
86 إن قاتل علي عليه السلام أشقى الأولين والآخرين وأشقى الناس 644
87 وصايا أمير المؤمنين حين رحلته إلى دار البقاء 653
88 تاريخ شهادته عليه السلام وسني عمره حين الشهادة 662
89 محل دفن جثمانه الشريف 667
90 حنوط علي من فضل حنوط رسول الله " ص " 673
91 قتل ابن ملجم اللعين 673
92 أزواجه عليه السلام 674
93 أولاده الأشراف السادة 678
94 بعض مراثيه عليه السلام 686