اتصفت بالفطنة والذكاء، والدقة وصواب التفكير، وأدت إلى سداد الرأي وإحقاق الحق. ونحن نوجز هنا بعض الأمثلة عن تلك الأقضية، مختارة من كتاب الطرق الحكمية، على أن نذكر غيرها في فصول لاحقة.
منها قضية نسب: ادعى غلام أمام عمر الفاروق على امرأة أنها أمه، فجاءت المرأة بنفر شهدوا بأنها لم تتزوج، وأن الولد كاذب، فأمر عمر بضرب المدعي حد القذف.
فعلم الإمام علي بذلك، فتداخل وعرض على الغلام أن يتزوج المدعى عليها.
فصرخت المرأة: الله الله، هو النار، والله ابني. ثم أقرت أن أهلها زوجوها زنجيا دون رضاها، فحملت منه هذا الغلام وذهب الزوج غازيا فقتل وبعثت هي بالولد إلى قوم نشأ بينهم، وأنفت أن يكون ابنها. فحكم علي بثبوت نسب الغلام، وبإلحاقه بالمدعى عليها.
وقضية قتل: ادعى شاب لدى الإمام علي أن أباه ذهب مع نفر في سفر، وأنهم لما عادوا زعموا أن والده مات ولم يترك شيئا من المال، وأن القاضي شريحا استحلفهم وأخلى سبيلهم. فأمر الإمام بتوكيل شرطين بكل من المدعى عليهم، لمنعهم من الاختلاط فيما بينهم، ثم استجوبهم كلا منهم على حدة، عن تفصيلات يوم خروجهم، ومكان نزولهم، وعلة موت رفيقهم، وكيف أصيب بماله، وكيف دفن وأين، وما شاكل من الأسئلة الدقيقة. فكانت الأجوبة متناقضة، فأمر بسجنهم، فظن كل منهم أن صاحبه قد أقر، فأقروا عندئذ جميعا بحقيقة القضية. وبالنتيجة، حكم الإمام بتغريمهم المال، وبإعدامهم قصاصا.
فهذه القضية تثبت جواز تفريق المدعى عليهم، لأجل التحري عن الحقيقة، والوصل إلى الحكم بالعدل. وتثبيت أن الإقرار على أثر ذلك يعتبر صحيحا غير مشوب بالإكراه.
وقال القاضي العلامة محمد بن خلف بن وكيع القرطبي المتوفى سنة 306 في " أخبار القضاة " (ج 1 ص 5 ط القاهرة):
وروايته لعلي بن أبي طالب عليه السلام، وهو أجل القضاة، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على القضاء في حياته.
وقال الدكتور محمد مصطفى أمبابي أستاذ الفقه المقارن بجامعة مصر في " الجديد في تاريخ الفقه الإسلامي " (ص 107 ط دار المنار - القاهرة):
وقد كانت براعة علي في القضاء أمنية تمناها الرسول صلى الله عليه وسلم، وحققها الله سبحانه وتعالى له، فقد قال علي: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قلت له: يا رسول الله، بعثتني وأنا شاب أقضي بينهم، ولا أدري ما القضاء، فضرب الرسول صدري بيده ثم قال: اللهم اهد قلبه، فوالذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين.
وقد استطاع علي كرم الله وجهه أن يجمع بين سلاحي الفقيه الناجح: العقل والنص، فضم إلى فطنته وبراعته كثيرا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان من رؤساء المفتين في عصره. ويبدو أن إكثاره من أحاديث كان راجعا إلى أمرين: حب علي للتلقي عن رسول الله ورغبة النبي صلى الله عليه وسلم في تفقيه علي، وإنماء حاسته العلمية، ويدل لذلك أنه سئل يوما، فقيل له يا علي، ما لك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا؟ فقال: إني كنت إذا سألته أنبأني، وإذا سكت ابتدأني.
وكان المتوقع وعلي بهذه الصفة من الفقه والعلم، أن نجد علمه، وفقهه على لسان الجمهور من الرواة والفقهاء، لكن هؤلاء لم ينقلوا عنه إلا قليل، وعن طريق جماعة معينة من الناس. ومع أن ابن القيم جعل عليا من المكثرين في الفتوى إلا أنه أسقطه من عداد الناشرين للفقه، واقتصر على أربعة فقط، هم: عبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعلل مسلكه بقوله: قاتل الله الشيعة، فإنهم أفسدوا كثيرا من علمه بالكذب عليه، ولهذا تجد أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه فتواه إلا ما كان عن طريق أهل بيته، وأصحاب عبد الله ابن مسعود، ولكن بعض الباحثين لم يرتض هذا التعليل من ابن القيم، وأرجع قلة المروي عن علي إلى محاربة الحكم الأموي لكل آثاره العلمية، حتى يضمحل شأنه، ولا يشيع بين الناس ذكره.
وقال الفاضل المعاصر الدكتور فاروق عبد العليم موسى رئيس محكمة الاستئناف في " الشريعة الإسلامية أصل أحكام القضاء " (ص 79 ط دار الأقصر للكتاب، كرداسة - جيرة):
ومن قضاء علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه:
من بين ما تميز الإمام علي الصواب في القضاء وذلك منذ أن أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ودعا له: اللهم ثبت لسانه واهد قلبه، وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام له: إن الله سيهدي لسانك ويثبت قلبك، ويقول الإمام علي: فما شككت في قضاء بين اثنين قط، وفي رواية: وما أشكل علي قضاء بعد.
وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وأقضاهم علي بن أبي طالب.
وكان علي رضي الله تعالى عنه يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فإن لم يجد نصا اجتهد رأيه فيهما.
ونورد آخر قضية فيها وهو يعالج سكرات الموت ويعاني من آلام الجراح، والمتهم فيها هو الذي طعنه طعنات قاتلة بسيف مسموم، قال رضي الله تعالى عنه عن ابن ملجم: إنه أسير، فأحسنوا نزله وأكرموا مثواه، فأن بقيت قتلت أو عفوت وإن مت فاقتلوه قتلتي، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
وقال في الهامش:
مسند أحمد / 1 / 83، 88، سنن أبي داود / 2 / 114، الحاكم / 3 / 135 وقال:
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
منتخب كنز العمال هامش مسند أحمد / 5 / 63، وروى وكيع بسنده عن ابن عمر وشداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أقضى أمتي علي، وروى عن عمر قوله أقضانا علي. أخبار القضاة / 1 / 88.
الطبقات الكبرى / ابن سعد / 1 / ق 3 / 23، المستدرك للحاكم / 3 / 144 وفيه:
فإن أعش فهضم أو قصاص، وأن مت فعاجلوه فإني مخاصمه عند ربي عز وجل.